قرأت في الجزء السادس الخاص بالفن من المدخل إلي دائرة المعارف البريطانية Guide to the Britanicca مقدمة في الفن كتبها : مارك فان دورين »an Doren Mark .. وهو شاعر وناقد وعالم. وكان أستاذا للغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا وله عدة مؤلفات أدبية، وتوفي عام 1972. استهل هذه المقدمة بدعوة إلي التصور، فيقول للقارئ : دعنا إذا استطعنا نتصور عالمًا مجردًا تمامًا من الفن من الحكاية من الصورة من المبني من الصوت ذي المعني إذا استطعنا وربما كان ذلك مستحيلا : سيكون ذلك العالم عالمًا لا يُريَ ولا يسمع ولا يوصف ولا يلمس. ولو استطعنا أن نسمعه أو نشعر به فلن ندرك أننا سمعناه أو شعرنا به كما يدرك الآدميون الأشياء. بدون اللغة وهي أول الفنون جميعًا، لا نستطيع أن ندرك ما حرمنا منه أي مزية التعبير عن الرضا أو السخط علي ما حدث تحت أنظارنا.. بدون فنون الكلام والإصغاء والتفكير والعد والقياس.. بدون الفنون الفكرية لا نستطيع أن نقدر أو نستبعد الخبرة التي مرت بنا. وبدون الفنون النافعة لا نستطيع أن نصنع شيئا أو نبني شيئا يصلح لاحتواء ووقاية أجسادنا، يصلح لأن يكون بيتا يُرتاح إليه وفيه بالنا. فقر الفنون وفقر العقل بدون الفنون الجميلة.. الفنون التي لا تخدم إلا نفسها التي هي أغراض وأهداف وليست وسائل وأدوات. التي تجد مبررها حين لا تمنحنا شيئا إلا السرور.. بدونها نصبح سطحيين فقراء في العقل. وإحساسنا ضعيف أو معدوم بما في الوجود من عمق ولون، وما في أنفسنا كمخلوقات بالنسبة للحظة الحاضرة التي هي أيضًا ماضٍ ومستقبل. نسمي هذه الفنون فنونا جميلة.. لا لكونها أفضل من الفنون الأخري، بل لأنها مختلفة عنها اختلاف الجمال عن المنفعة.. الجمال الذي هو نفسه عذر وجوده وعلته. فن الحكاية ليس من بينها ماهو أشد التصاقاً بالآدميين من الحكاية.. ففن الأدب هو فن الحكاية.. فيه أغانٍ وفيه مقالات طوال وقصار.. وفيه تواريخ وسير وشروح ومواعظ ومناقشات عن كل شيء تحت الشمس، ولكن الحكاية هي أول ما يمتعنا وآخر ما يمتعنا.. إذ نحن أطفال وإذ نحن شيوخ.. لا يغرد ببالي بما هو واقع، إلا إذا كان في الزمن الماضي.. حيث تعكس حياة الأشخاص ذلك الضياء الخاص الذي يصاحب أحداث الزمن والخلق. تختلف الحكايات في الطول من النادرة إلي الملحمة، ومن القصة الخيالية إلي الرواية والسيرة المتخيلة أو الحدث الرومانسي. وتصل إلينا الحكايات في شتي الصور.. في المسرح مثلا حيث تستخدم البشر الممثلين لحمل معانيها، أو قد تكون ومضات فقط من الضوء والظل علي شاشة ليس لها عمق إلا ما يزودها به خيالنا.. وهي ما نسميه مسرحيات أو أفلاما سينمائية أو نسميه «باليه» إذا دارت فيه الموسيقي والأصوات ورقص الراقصين والراقصات. الطبيعة لا تحكي حكايات، وإنما يحكيها الفنانون.. وفي هذه العملية يجرون تغييرات وتحولات بقدر المسافة ما بين المادة وبين العقل. في الطبيعة وحسبما نعرفها لا بدايات ولا نهايات بالمعني المفهوم للكاتب والقارئ في القصة والدراما. ولا يعني ذلك التاريخ الذي يفرض شكلا علي دوامة الأحداث. لا يهم ما هو حظ الحكاية من البساطة أو التعقيد أو كثرة أو قلة ما فيها من الألفاظ. إنها بنيان بشري صرف لا يستطيع أن يجد فيه أي حيوان أو نبات أو جماد أي متعة، علي حين يحبس الآدمي أنفاسه إلي أن يصل إلي نهايته. فالنهايات مفهومة وقابلة للفهم، بينما المواد الخام للحياة ليست كذلك فيما يبدو. وإذا كانت الحياة في ذاتها لا تصبح مفهومة من خلال الحكاية، إلا أنها بطريقة خفية تصبح جميلة وواضحة.. وهذا في وقته يكفي. وكل فن من الفنون الجميلة يزدهر في أشكال كبيرة وصغيرة.. تمامًا كما تتمايز الحكاية بين قصر الحكايات الشعبية وطول الملاحم والرومانسيات.. كذلك ما يقال بشأن الحياة من كلمات ومقالات يتراوح بين إيجاز وتركيز القول المأثور وجوامع الكلم بما فيها من حكمة الأجيال أو لمعة الخاطر وبين إسهاب وتفصيل الكتاب المطول ذي الأجزاء التي لا آخر لها. بالمثل : الموسيقي صوت عوالم أخري.. تصل إلي آذاننا تارة كأغنية بسيطة، وتارة كأوبرا وسيمفونية وغير ذلك من الأشكال المركبة. وهناك من يقول إن الأغنية كالحكاية أو الأحدوثة المجهولة المصدر.. أهم وأبقي علي الزمن من التآليف عظيمة التركيب، وأن قطعة الشعر الغنائية في كمالها ونادرًا ما تكون كذلك فيها ما يصل إلينا أو فيها ما يمس أو يؤثر علي وجوه أكثر عمقا مما في أضخم تراجيديا من خمسة فصول، أو ما في حذق رواية فكاهية من ألف صفحة. وحين يُجْمعَ بين لحنٍ يُتَذكر ولا يُنْسي كأنما وجد لكي يخلد. الموسيقي أكثر الفنون جميعًا عصيانا علي العبارة والوصف. إن لها لغتها الذاتية الخاصة بها.. وهي تصغي لنفسها وتُسْمع ذاتها. ونحن لا نسمع الموسيقي بقدر ما نتسمّع عليها.. ويمكن ألا نتحدث بوضوح شديد عما تسمعناه. للموسيقي الناجحة وللموسيقي ذات القوة أثر علينا.. حاول الكثيرون عبثا أن يصفوه.. إنها تأخذنا خارج ذواتنا كما يقولون، وربما يكفي هذا القول ولا يحتاجون بعده إلي مزيد. ولعلهم في هذا لا يتحدثون إلا عن الموسيقي التي عاشوها.. فموسيقي الشرق تبدو لأذن الغربيين غير المدربة مجرد ضوضاء. كما أن الموسيقي الغربية لها رتابة مملة عند أهل الصين.. لا يتصور وجودها الغربيون. ونفس الشيء يصدق لكن بدرجة أقل علي جميع الفنون. لأن للغرب والشرق عيونا وآذانا وأفكارا مختلفة. فنون الرسم والحفر والتصوير وفنون الرسم والتصوير والحفر والليثوجراف والنحت والتصميم الزخرفي تغطي العديد من الأسطح. القماش والجبس والرقاق والورق مما لم يعد يري فيه أين عملت يد الفنان.. لأن مادة تلك الأعمال مما يبلي ويتلف كما تري في رخام النحات أو البرونز أو الخشب. ما يزال الكثير باقيا ولكن أكثر منه لم يعد له وجود. حتي تصاوير الكهوف مما قبل التاريخ في فرنسا وأفريقيا هلل لها الإنسان العصري عند اكتشافه إياها، واعتبرها إعجازاً في البقاء، وهي قد لا تبقي مع اندفاع أمواج البشر من الأحياء إلي رؤيتها. ولم تبق موسيقي الإغريق الأقدمين لسبب آخر.. فلسنا نعرف كيف كانت تكتب ولا كيف كانت أصواتها.. قيل إنه كان لها قوي تكاد تكون سحرية علي من كانوا يسمعونها في ذلك الزمان. ومضي ذلك الزمان مع الزمن الذي كانت فيه التصاوير تزين حوائط وأعمدة المعابد والمنازل الإغريقية. بلجيكا وهولندا وفرنسا وألمانيا واسبانيا وإيطاليا وانجلترا.. كل منها بدورها وأحيانا بأدوارها قد أثرت العالم بالأشكال والألوان التي لم يكن يتوقعها ويتصورها إلا العباقرة، ولم يكن يستطيع إيجادها وإبداعها إلا أصحاب العاطفة القوية.. وليس هذا إلا نصف الحكاية.. فقبل ذلك في الصين والهند وبلاد فارس واليابان وروسيا كانت فرشاة المصورين مغموسة في الذهب.. تُجملَ وتمجَّد قصور الأباطرة ومقابر الأمراء وبيوت الآلهة العظيمة. ولآلاف السنين في مصر كان نظام العالم يسجل في الحجر والذهب، وكانت الكلمات المكتوبة ذاتها تصاوير.