في ليل القاهرة الساحر يضفي عليه شتاؤه رومانسية تحيط المكان بأكمله، بينما كنت جالسا علي أحد مقاهي المدينة الخديوية العتيقة كان صوت كوكب الشرق يشدو بتحفة إبداعها الفريدة »ألف ليلة وليلة» من كلمات العظيم مرسي جميل عزيز تنساب علي فيض نغمات الساحر بليغ حمدي. سيمفونية الإبداع غير المتناهي استمرت في التدفق علي أسماع الحاضرين عبر أثير الراديو المثبت أعلي رف خشبي قديم بداخل المقهي لتفرض حالة من الالتفاف والوحدة الفنية حول الحالة الموسيقية التي غلفت المكان، ومع قرب آذان الفجر سارع أحد العاملين بالمقهي لإدارة مؤشر الراديو علي موجات إذاعة القرآن الكريم التي كانت تبث إرسالها تمهيدا لشعائر الصلاة بصوت المبتهل سيد النقشبندي الذي راح يتغني بمقطوعته الشهيرة »مولاي» وهي لمن لا يعرف من ألحان نفس المبدع بليغ حمدي، ساعتها كان الوقت قد داهم الجميع ليبدأ المقرئ عبد الباسط عبدالصمد في تلاوة آيات الذكر الحكيم بصوته المنبعث من قيثارة السماء. حالة فنية وروحانية طغت علي المكان وعلي أرواح الحاضرين، تثبت في كل تفاصيلها حالة إبداع مصرية طالما ساهمت في توثيق الهوية العريقة الأصيلة لهذا الوطن. وسط روعة ورومانسية المشهد قفز إلي ذهني معنيً لما يمكن وصفه بمنظومة »الأمن القومي الفني والإبداعي» للدولة المصرية، عندما تتحول الفنون المصرية إلي وعاء واق وحاضن للهوية وللشخصية المصرية عبر مراحل الزمن المختلفة والتي وقفت في وجه محاولات طمس هذه الهوية أو تشويهها أو العبث فيها. برغم حلاوة المشهد إلا أن ذاكرتي قد أعادتني إلي ذكريات النكسة المؤلمة ليس من أجل تذكر تفاصيلها التاريخية ولكن استدعاء لحالة فنية كانت بداية للنهوض من الانكسار إلي البدء في امتلاك العزم والعزيمة وامتصاص الصدمة للبدء في معركة استعادة الكرامة، ذهب خيالي ساعتها إلي أن خطة الانتصار قد بدأت تفاصيلها من داخل النوتة الفنية لأغنية »موال النهار» التي شدا بها العندليب عبدالحليم حافظ من كلمات صوت الصعيد عبدالرحمن الأبنودي علي نغمات نفس المبدع البليغ، لم تكن أغنية عادية بل نداءً وطنيا لاستنهاض الإرادة الجريحة. الموال بدأ باستدعاء عميق لمخزون الألم المصري ثم استمر في تجسيده الموسيقي لحالة الغضب والرفض للهزيمة ثم امتلاك كبرياء الثأر للوطن، ثم انتهت بقرار مصري حاسم بتحقيق الانتصار عندما ختمها العندليب بعبارة » كل الدروب واخده بلدنا للنهار». من رحم الهزيمة المرة راحت أم كلثوم تجوب الداخل والخارج تجمع الأموال لصالح المجهود الحربي بعدما تحولت حفلاتها إلي جبهات للقتال تستدعي مخزون الإرادة المصرية. الطاقة الفنية بداخلها والممزوجة بعشق هذا الوطن الجريح حولتها من كوكب الشرق إلي قاعدة ارتكاز لاستدعاء إرادة النصر، بكامل إرادتها الفنية والوطنية استحدثت أم كلثوم مفهوما جديدا عنوانه »فنان مقاتل». علي أنغام كوكب الشرق راحت الجنود المصرية تستعيد كبرياءها علي امتداد جبهات القتال التي توحدت مع خشبات المسارح لتتحول كامل الأرض المصرية إلي جبهة قتال عريضة وصلبة هزمت الهزيمة قبل تحقيق الانتصار. في مصر المبدعة ظل الفن مدافعا عن موطنه الأصلي علي أرض المحروسة لم يتوقف طوال فترة التسعينيات في مواجهة الإرهاب، لم يتوقف عادل امام عن المواجهة في دور السينما وعلي خشبة المسرح. عبر شاشات التليفزيون المنزلي راحت المسلسلات تواجه أعداء الحياة، وحول حلقات مسلسل »العائلة» كانت تتجمع العائلة المصرية لتشارك في مواجهة مجتمعية ضد التطرّف جنبا إلي جنب مع جهود الشرطة المصرية آنذاك. علي امتداد جبهة المواجهة الداخلية ضد الإرهاب كانت جبهة المًواجهة الفنية تلاحقها خطوة بخطوة. لم تتوان جبهة الفن المصري لحظة واحدة عن دورها في حفظ تفاصيل معارك الدولة المصرية داخل أرشيفها الوطني. تذكر عندما وقف عادل امام في فيلم »السفارة في العمارة» يستدعي ضمير العالم ضد العدوان الإسرائيلي علي أطفال فلسطين، تذكر عندما وقف أحمد زكي من قبله في فيلم » أيام السادات» ليعيد تلاوة نص خطاب الكنيست علي مسمع من ضمير العالم وضمير أجيال كانت قد تعرض وعيها للتشويه والتشكيك في دور مصر العروبي بعد نصر أكتوبر. في غفلة من الزمن كانت عصابة الإرهاب الإخواني قد استولت علي حكم البلاد ظنت أن الأمر قد استتب لها، راحت تنفذ خطة لأخونة الدولة لكنها أبدا لم تكن لتجرؤ عن الحديث عن أخونة الفن المصري بل لا تملك ذلك. بينما كانت ثورة 30 يونيو تتصاعد إرهاصاتها كانت ألوان الفنون المصرية تحاصر الصلف الإخواني وتفضحه وتكشفه وتحوله إلي مادة للكوميديا والسخرية،صنوف القوي الناعمة تحولت لقاعدة صلبة ارتكزت عليها القلوب العاشقة لهذا الوطن والثائرة من أجله. علي قواعد العشق المصرية راحت ثورة 30 يونيو تشيد بنيانها وتستدعي جمهورها من كل بيت وكل ميدان، ليظهر ساعتها صاحب الصوت الشجي بهاء سلطان بندائه الفني »انزل» التي جابت القلوب طوال شهر يونيو وصولا إلي لحظة الثورة العظيمة التي تدفقت إلي الميادين علي نغمات الفن المصري. في مواجهة الفن المصري راحت طلقات الغدر الإخواني تنطلق دون تمييز نحو صدور المصريين، لكن أصوات النغمات تعالت علي أصوات الطلقات. علي أنغام أغنية »تسلم الايادي» عاود المصريون الالتفاف حول وطنهم، راحت الأغنية تجوب أنحاء البلاد لتصيب فلول التنظيم العصابي الإخواني بالهيستيريا لمجرد سماع نغماتها ولمجرد سماع كلمة الجيش المصري محاطة بالموسيقي، تخيل أن يصل الأمر إلي ترديد الأغنية ضمن فقرات الأفراح الشعبية والراقية، تخيل قدرة أغنية واحدة علي توحيد وجدان المصريين. في الطريق إلي »خارطة الطريق» كان المصريون يخطون خطواتهم إلي المستقبل تنفيذا لمراحل هذه الخريطة الوطنية. وبالقرب من الاستحقاق الوطني الأهم انتظارا لأول انتخابات رئاسية عقب ثورة 30 يونيو كان المصريون علي موعد مع أغنية »بشرة خير» التي جسدت عبقرية ثلاثية بصوت حسين الجسمي وألحان المبدع المتدفق عمرو مصطفي وكلمات العبقري أيمن بهجت قمر، الأغنية تحولت إلي حالة وطنية غير مسبوقة نفذت عملية تعبئة عامة وطنية غير مسبوقة تدفقت أصداؤها في الميادين وفِي اللجان الانتخابية. ابدا لم يكن الفن المصري يوما من قبيل الترف علي هامش الدولة المصرية بل مكونا حاسما ووجوديا لذاكرة هذه الأمة، علي قواعد عشق هذا الوطن لطالما خاضت مصر الأزمات والصعاب، لكن هذه القواعد لم تُبّنَ إلا بنسيج الفنون المصرية وتأثيراتها العميقة في الوجدان المصري استنهاضا من الكبوة أو الهزيمة أو استدعاءً للصمود والتماسك أو تعبئة من أجل العبور.