حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأربعاء 12 نوفمبر    تصريح جديد من الحوثيين بشأن اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل    مصر تعزي تركيا في ضحايا حادث سقوط الطائرة العسكرية    دون إصابات.. انهيار عقار مكون من 8 طوابق في منطقة الجمرك بالإسكندرية    السحب بدأت تزحف، خريطة سقوط الأمطار اليوم الأربعاء ومصير القاهرة    في ذكرى رحيله، كيف تحول محمود عبد العزيز من موظف وبائع للصحف إلى "ساحر السينما"    انتظام وصول الدم للمخ.. آخر تطورات الحالة الصحية للفنان محمد صبحي    حظك اليوم الأربعاء 12 نوفمبر.. وتوقعات الأبراج    اليوم التعريفي للأطباء المقيمين الجدد بمستشفيات قصر العيني – جامعة القاهرة    رسميًا.. موعد امتحانات شهر نوفمبر 2025 لصفوف النقل الجديدة بعد تعطيلها بسبب انتخابات مجلس النواب    سعر الدولار أمام الجنيه بالبنك المركزي والبنوك الأخرى قبل بداية تعاملات الأربعاء 12 نوفمبر 2025    إصابات في هجوم لمستوطنين إسرائيليين على قريتين فلسطينيتين في الضفة الغربية    أسعار الأسماك والخضراوات والدواجن اليوم 12 نوفمبر    دعمًا لمرشحيه بمجلس النواب.. «مستقبل وطن» ينظم مؤتمرًا جماهيريًا بدمياط    «أختي حبيبتي».. محمد إمام يهنئ مي عز الدين بعقد قرانها على أحمد تيمور    خالد سليم يشعل ليالي الكويت بحفل ضخم ويحتفل ب«ليلة مِ اللى هيّا» مع جمهوره    انطلاق الدورة الأولى من مهرجان «توت توت» لكتب الأطفال في ديسمبر المقبل بالمعهد الفرنسي    تراجع أسعار الذهب اليوم الأربعاء 12 نوفمبر في بداية التعاملات بالبورصة العالمية    طن الشعير اليوم.. أسعار الأرز والسلع الغذائية الأربعاء 12-11-2025 ب أسواق الشرقية    إعلان الحصر العددي لأصوات الناخبين بالدائرة الأولى "دراو وأسوان وأبو سمبل"    بكام الفراخ النهارده؟ أسعار الدواجن والبيض في أسواق وبورصة الشرقية الأربعاء 12-11-2025    «زي النهارده».. وفاة الفنان محمود عبدالعزيز 12 نوفمبر 2016    «زى النهارده».. استخدام «البنج» لأول مرة في الجراحة 12 نوفمبر 1847    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    رئيس الوزراء: استثمارات قطرية تقترب من 30 مليار دولار في مشروع "علم الروم" لتنمية الساحل الشمالي    نشأت الديهي: بن غفير يوزع حلوى مغموسة بدماء الفلسطينيين    ماكرون وعباس يعتزمان إنشاء لجنة لإقامة دولة فلسطينية    تحقيق عاجل من التعليم في واقعة احتجاز تلميذة داخل مدرسة خاصة بسبب المصروفات    الزراعة: السيطرة على حريق محدود ب "مخلفات تقليم الأشجار" في المتحف الزراعي دون خسائر    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم توك توك وتروسيكل بالخانكة    ألمانيا تقدم 40 مليون يورو إضافية للمساعدات الشتوية لأوكرانيا    انقطاع التيار الكهربائي بشكل الكامل في جمهورية الدومينيكان    تسع ل10 آلاف فرد.. الجيش الأمريكي يدرس إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من غزة    سبب استبعاد ناصر ماهر من منتخب حلمي طولان وحقيقة تدخل حسام حسن في إقصاء اللاعب    رسميًا.. موعد إعلان نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 المرحلة الأولى    لتجنب زيادة الدهون.. 6 نصائح ضرورية للحفاظ على وزنك في الشتاء    مواجهة قوية تنتظر منتخب مصر للناشئين ضد سويسرا في دور ال32 بكأس العالم تحت 17 سنة    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يواصل استعداداته لمواجهتي الجزائر (صور)    النيابة تطلب تحريات سقوط شخص من الطابق ال17 بميامي في الإسكندرية    حبس المتهم بالتسبب في وفاة والدته بعيار ناري أثناء لعبه بالسلاح بشبرا الخيمة    الحسيني أمينا لصندوق اتحاد المهن الطبية وسالم وحمدي أعضاء بالمجلس    علشان تنام مرتاح.. 7 أعشاب طبيعية للتخلص من الكحة أثناء النوم    ارتفاع حصيلة ضحايا إعصار فونج-وونج بالفلبين ل 25 قتيلا    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. روسيا تمنع 30 مواطنا يابانيا من دخول البلاد.. اشتباكات بين قوات الاحتلال وفلسطينيين فى طوباس.. وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلة يقدم استقالته لنتنياهو    انتخابات مجلس النواب 2025.. بدء عمليات الفرز في لجان محافظة الجيزة    انتخابات مجلس النواب 2025.. محافظ الفيوم يتابع أعمال غلق لجان التصويت في ختام اليوم الثاني    السياحة تصدر ضوابط ترخيص نمط جديد لشقق الإجازات Holiday Home    المستشار بنداري يشيد بتغطية إكسترا نيوز وإكسترا لايف ووعي الناخبين بانتخابات النواب    «ستأخذ الطريق الخاطئ».. ميدو يحذر حسام عبد المجيد من الانتقال ل الأهلي    بيان رسمي من خوان بيزيرا بشأن تجاهل مصافحة وزير الرياضة بنهائي السوبر    منتخب مصر يستعد لأوزبكستان وديا بتدريبات مكثفة في استاد العين    كرة سلة - الأهلي يفوز على سبورتنج في ذهاب نهائي دوري المرتبط للسيدات    رياضة ½ الليل| الزمالك يشكو زيزو.. انتصار أهلاوي جديد.. اعتقال 1000 لاعب.. ومصر زعيمة العرب    أخطاء تقع فيها الأمهات تُضعف العلاقة مع الأبناء دون وعي    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخبار اليوم تنشر صفحات من مذكرات عادل حموده «4»
نشر في أخبار اليوم يوم 26 - 01 - 2018

حاورت مفجر ثورة الشباب في أوروبا فاتهمتني »روز اليوسف»‬ بالعمالة للمخابرات الأمريكية !
عقدة الأمن سيطرت علي التنظيمات اليسارية وتبادل أعضائها اتهامات التنصت لحساب الأجهزة !
تعلمت الدرس الصحفي الأول من صلاح حافظ : لا يكفي أن تكون علي حق المهم أن تكون قادرا علي إقناع الناس به !
أطلقت الشرطة الرصاص علي المتظاهرين ضد الأحكام الهزيلة لقادة الهزيمة فتغير حلمي من الحكومة إلي الحرية !
العلاقة بين الصحافة والسلطة ولو كانت ديمقراطية علاقة احتياج متبادل لا تخلو من الكراهية !
السبت القادم:الصحفي الوحيد الذي جمع بين مدرستي أخبار اليوم وروز اليوسف في وقت واحد ؟
السادات للشرقاوي : الشيوعيون ضحكوا عليك يا عبد الرحمن !
خبأت تحية كاريوكا صلاح حافظ من البوليس السياسي فعرض عليها الزواج !
لم تمر التظاهرات التي اشتعلت في الجامعة احتجاجا علي التهاون مع جنرالات هزيمة يونيو بخير.. خرجنا نطالب بالإفراج عن الطلاب المعتقلين فوجدنا قوات الأمن في انتظارنا.. أطلقت قنابل مسيلة للدموع ولحقتها بطلقات عشوائية من الرصاص القاتل.. في مشاهد دامية لا تنسي.
فررنا مثل فئران مذعورة إلي حديقة »‬ الأورمان »‬ القريبة من الجامعة نتسلق أشجارها ليحظي كل منا بنصيبه من العقاب.. من نجا من الرصاص لم ينج من الهراوات.. ومن نجا من الهراوات لم ينج من قنابل الغاز.. ودمعت قلوبنا قبل عيوننا.. وتألمت مشاعرنا قبل أن نتوجع أجسادنا. . في ذلك اليوم الحزين عدت من جامعة القاهرة في الجيزة إلي بيتي في حي العباسية مشيا.. كنت مصدوما مذهولا فلم أشعر بطول الطريق.. وعجزت عن الإجابة علي الأسئلة التي تفجرت في رأسي.. كيف يضرب عبد الناصر أبناءه ؟.. كيف يبطش بنا ونحن نؤمن به ؟.. ألم يكن أولي بالرصاصات التي أطلقت علينا أن توجه إلي العدو الإسرائيلي المسترخي في سيناء يستمتع بالاستحمام في مياه القناة وهو يخرج لسانه لنا ؟.
وجدت نفسي في حالة غربة مع النظام.. غضبت منه.. وسخط علي الناس التي انصرفت إلي تناول الفول وتدخين المعسل وشرب الشاي الأسود والسهر وسط دخان الحشيش الأزرق تستمع إلي أم كلثوم وتكاد تنتحر إذا ما خسر فريق كره القدم الذي نشجعه ولم أكن استوعبت سلوكيات المصريين السلبية إذا ما أبعدوا عن شئون بلادهم.
لكننا في ذلك اليوم ومن شدة الإنكسار فقدت الثقة في الشعب بعد أن شعرت بالغربة في الوطن.
وعرفت وقتها لم انتشر الإكتئاب بين المثقفين ولم تضاعف إقبالهم علي المهدئات ولم لجأ بعضهم للتدين منقلبا من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين.
ما أن وصلت البيت حتي أغلقت باب حجرتي فاقدا شهيتي في الطعام ورغبتي في الكلام وحماسي للدراسة بل إنني ندمت علي دخولي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وفكرت في التحول إلي كلية الطب أو الهندسة أو غيرها من التخصصات التي تسمح بالعمل في الخارج بسهولة لكن كانت المشكلة إنني لا أطيق تلك المهن ولا أتصور نفسي فيها.
علي إنني شعرت بأن هناك دنيا أكبر من دنيانا التي ضاقت بنا بعد أن حشرونا في »‬ خرم أبرة »‬ فلم نقرأ صحيفة أجنبية ولم نسمع إذاعة أجنبية ولم نطلع علي كتب معارضة ولم نتعرف علي ثقافات أو تجارب أخري غير ما لقنوه لنا.
إن الشخص لا يثق في طوله إلا إذا وقف بجانب شخص آخر اقصر منه.. والدولة لا تعرف مدي حريتها ونجاحها إذا لم تقارن نفسها بغيرها.. والنتيجة الوحيدة.. لا مفر من السفر إلي الخارج.. ربما هربا.. ربما زهقا.. أو ربما علما.
قررت أن »‬ اطفش »‬ مجروحا مطعونا متألما وأمام حالتي التي لم تعد تسر أحدا وافق والدي علي سفري إلي الخارج ووضع في يدي تذكرة طائرة إلي لندن وعشرين دولارا وكان شرطه الوحيد أن أعود في وقت مناسب قبل الامتحانات واثقا في قدرتي علي النجاح ولو ذاكرت اسابيع قليلة.
قضيت خمسة أسابيع في أوروبا.. عملت حارسا ليليا وبائعا في محل شاورمة لكسب النقود.. اكلت وجبات قليلة رخيصة.. سافرت بطريق الاوتستوب غالبا.. عرفت لنا الملكية.. ووارسو الشيوعية.. وروما التاريخية.. وباريس المتمردة.. وفيها توقفت طويلا.
كانت باريس تعيش ذروة »‬ ثورة الشباب »‬ الذي تمرد علي كل شئ.. الحكومة والكنيسة والصحافة والجامعة والعائلة والصحافة والسياسة والزواج والملابس الأنيقة.. وبدأ الترويج للجماعات الهيبية والحرية الجنسية والعودة إلي الطبيعة.. لكن.. ذلك كان علي هامش تيارات سياسية يسارية شابة بدأت تفرض نفسها علي تنظيمات شيوعية شاخت وتحالفت مع الرأسمالية واصبحت تابعة لها.
تعرفت علي لبنانية شابة تدرس العلوم السياسية وتتمتع بجاذبية خاصة منحتها حيوية جعلت منها شخصية قيادية.. كنا نحتل الطرق المؤدية إلي جامعة السربون وننام علي أرصفتها.. نأكل خبز الباجت حافا وأحيانا كنا نحشوه بالجبن والبسطرمة.. ولم يكن الغضب يخلو من متعة الموسيقي البرية علي جيتار سبانش يعزف عليه من يجد في نفسه موهبة أو نشوة.
وذات يوم دعتني حنان شراراة لحضور لقاء مع مفكر ومفجر الثورة ونبيها الفيلسوف هربرت ماركيوز ( أو مركوزه ) الذي جاء خصيصا لدعم جماعة فرنسا قادما من ألمانيا لمدة ثلاثة أيام وجلس وسط الشباب في الحي اللاتيني وكأنه واحدا منهم.
وماركيوز ولد في برلين عام 1898.. بدا حياته بائع كتب.. وانتسب إلي جامعة فرانكفورت لدراسة الفلسفة بجانب دراسته في معهد العلوم الاجتماعية هناك.. وشكل جماعة فكرية ذات توجه ماركسي ظلت حتي عام 1033 تدعو إلي تطوير النظريات اليسارية.. وفي ذلك العالم وصل الحزب الاشتراكي القومي الذي اشتهر بالحزب النازي إلي الحكم فسافر ماركيوز إلي سويسرا ومنها إلي الولايات المتحدة حيث انضم إلي جامعة كولومبيا.. وخلال الحرب العالمية الثانية لعب دورا رسميا في الدعاية ضد هتلر.
ركز ماركيوز في كتاباته علي نقد الرأسمالية وتجديد الماركسية موجها نقده للتنظيمات الشيوعية والاتحادات العمالية التي استسلمت لنظم الحكم الإمبريالية ففقدت أحلامها قبل أن تفقد اتباعها.. واعتبر ماركيوز الطلاب والنساء والزنوج وغيرهم من الأقليات والعاطلين الذين لا يخضعون لسطوة الشركات متعددة الجنسيات هم القوي الثورية الجديدة التي يصعب استيعابها من خلال نمط الاستهلاك السائد.
وعبر ماركيوز عن أفكاره في كتب لا تزال تدرس في الجامعات الغربية مثل كتاب »‬ العقل والثورة »‬ وكتاب »‬ الحضارة والرغبة »‬ وكتاب »‬ الإنسان ذو البعد الواحد »‬ وكتاب »‬ الماركسية السوفيتية »‬ الذي انتقد فيه التجربة البولشيفية بجانب دعوة ملحة لتحريرها من الجمود الفكري وإن توقع عدم الاستجابة متنبئأ بانهيارها وهو ما حدث فيما بعد.
وفي عام 1979 توفي ماركيوز بجلطة في المخ أجهزت علي حياته في دقائق معدودة.
جلست إليه مستمعا ومستمتعا بما يقول عبر ترجمة حنان شراراة التي استجابت لاقتراحها بإجراء حوارمعه انشره في مصر التي تجهله ربما تعلمن الفرق بين الثورة والضجة التي تهب عصبيا وتموت سياسيا دون أن يكون وراءها تفكير أو تنظيم أو خطة ترسم مستقبلا.
رحت أسال وهو يجيب وحنان تترجم ورحنا معا نصيغ ما حواره ونضع عناوينه دون حاجة لتبرير إجرائه فقد كان عام 1968 عام ثورة الشباب في العالم كله من مصر إلي الولايات المتحدة مرورا بفرنسا التي أجبرت رئيسها الجنرال شارل ديجول علي أن يجري استفتاء شعبيا غير متوقع علي استمراره في الحكم.
أصبح لدينا حوار صحفي عالمي لكن المشكلة : أين ننشره ؟.
لم أفكر إلا في روز اليوسف.. المجلة السياسية التي تدخل بيتنا ونشارك أبي في قراءتها وأعرف المشاهير من كتابها.. وتحمست حنان شرارة لها.. واتفقنا علي أن نرسل الخطاب باسم صلاح حافظ فهو الأكثر مهنية رغم ليس رئيس التحرير.
أرسنا الخطاب ونسيناه فلم نتصور أنه سيلقي اهتماما لكن بعد أسبوعين فوجئت بحنان تأتي مهللة وهي تحمل في يدها صحيفة لبنانية تراسلها قائلة :
»‬ روزا نشرت الحوار وصحيفتي نقلته عنها ضربنا عصفورين بحجر واحد »‬.
قدم صلاح حافظ الحوار مشيرا إلي موهبتي الشابة في طرح الأسئلة وصياغة الحوار واختيارالعناوين ثم نشر نص الحوار كما هو ولكنه أنهاه بتعليق من عنده أجهز عليه فقد اتهمني بالبراءة السياسية وربما الغفلة المهنية.. فهربرت ماركيوز الذي تحمست للحوار معه لم يكن في نظر صلاح حافظ إلا عميل للمخابرات الأمريكية مهمته نسف النظرية الماركسية التقليدية من جذورها لحساب يسار جديد يسهل السيطرة عليه حسب ما كتب.
وهكذا.. موضوعي الأول في الصحافة جاء دون أن أقصد مع شخصية عالمية ونشر بلا تدخل لكنه في الوقت نفسه جاء إلي بتهمة العمالة وإن لم يفصح صلاح حافظ عنها صراحة مكتفيا بنصحي أن أكون يقظا حتي لا أجد نفسي متورطا في قضية تجسس متعددة الجنسيات.
كانت مشكلة صلاح حافظ هي نفسها مشكلة كل الفرق اليسارية المختلفة في مصر.. كل تنظيم يتهم الآخر بالعمالة للأمن.. وكل فصيل يتهم غيره بالتفريط في مبادئ الماركسية والوقوع في براثن البرجوازية.
كانت تلك المشكلة بمثابة عقدة مزمنة لليسار في بلادنا.. أفقدته وحدته.. وفتت تماسكه.. وأجهزت في النهاية عليه.. أكثر من ذلك منعت أجيالا جديد من الإيمان برسالته.. وربما كان السبب نجاح الأمن في اختراقها.. وربما كان السبب المثالية المرضية التي يعيشها المثقفون في أبراجهم العالية.. وربما كان السبب تحويل أحلامهم السياسية في العدالة الاجتماعية إلي حقائق ملموسة.
كل مناضل مخبر ولو ثبت العكس.. كل مثقف عمليل للسلطة مهما بدا ملتزما.. الاختلاف جريمة.. والاجتهاد عار يعاقب بالتشهير والتدمير.
وتوسعت تلك الحرب لتصيب كل موهبة شابة تقترب من الصحافة لو كانت مستقلة عن التنظيم اليساري الذي يسيطر علي المطبوعة.. في ساعات قليلة ستوصم تلك الموهبة في كافة الأوساط السياسية والثقافية والصحفية بما يحطمها أو يشلها أو يجبرها علي الهروب فخربت المهنة وجلسوا علي تلها.
عشت تلك المأساة بوضوح في روز اليوسف عندما دخلتها وشهدت معارك خفية بين كتابها اليساريين الذين يسيطرون علي تحريرها فانتهت مجلة هزيلة ضعيفة محدودة التوزيع والتأثير تحتاج إلي معجزة كي تسترد مكانتها بين قرائها.
دخلت المجلة امرأة شابة متزوجة تمتلك سيارة وحماتها محامية شهيرة.. لم تكن جميلة لكنها كانت جذابة.. لا تجد حرجا في ارتداء ملابس قصيرة فوق الركبة.. وتنافس علي نيلها اثنان من أقطاب
الشيوعية قضيا سنوات من عمرهما في المعتقلات وخرجا منها يعوضون بشراهة ما فاتهم.. أحدهما من عائلة ارستقراطية انجدب إلي اليسار خلال دراسته في باريس من باب الملل أو التغيير.. والآخر من عائلة فقيرة كان اليسار طريقا إجباريا أجبر علي السير فيه.. وراح كل منهما يتقرب إليها متهما الآخر في شرفه السياسي وعندما فشلا في الحصول عليها اتهماها معا بأنها مخبر مدسوس من الأمن.
وهربت المرأة الشابة بجلدها وراحت تتدرب في مؤسسة صحفية أخري دون أن أعرف هل تكرر التحرش بها هناك ؟ أم أنها شقت طريقها دون متاعب إلا ما تفرضه المهنة.
وحدث أن صحفيا يساريا كان في اجتماع خلية من خلايا التنظيم وبعد أن غادر الاجتماع ونزل إلي الشارع وجد البوليس السياسي يستعد لمداهمة المكان فعاد سريعا إلي زملائه ليقبض عليه معهم حتي لا يتهم بأنه هو الذي أرشد عنهم مع أن العقل يقول : إن وجوده خارج المعتقل مفيد لهم وللتنظيم كما هو الحال في جماعة الإخوان ولكن لم يكن بيد الرجل حيلة فقد خشي علي سمعته من التلوث ولو كان الثمن حريته.
لم أكن أعرف تلك الوقائع وصلاح حافظ يتهمني بالسذاجة ويحذرني من الوقوع في براثن الخيانة في حواري مع ماركيوز.
لكنني شعرت بالإهانة مما كتب وقررت الرد عليه في مقال نشره هو بنفسه في بابه الأسبوعي »‬ قف »‬ ردا علي اتهام اليسار الجديد بالعمالة.
وصفت في الرد موقف الأحزاب الشيوعية القديمة التي ينتمي لواحد منها ( حدتو أو الحركة الوطنية للتغيير ) بالتخاذل والترهل والضعف والاستسلام وقبول أنصاف الحلول والعجز عن التجديد والفشل في ترجمة العقائد إلي خطط واقعية مناسبة للمجتمع وعدم مد الجسور مع كوادر جديدة تواصل المسيرة.
وجاء تعليق صلاح حافظ علي الرد أكثر جاذبية مما كتبت.. اسلوبه ساحر وموحي ومؤثر وممتع جعله يكسب معركتي الأولي معه بسهولة وهو ما علمني الدرس الأول في الصحافة : »‬ ليس مهما أن تكون علي حق ولكن المهم ان تكون قادرا علي إثباته وإقناع الناس به »‬.. إن كثيرا من المحامين يخسرون قضاياهم بسبب عجزهم عن التعبير عنها.
ولنفس السبب خسرنا معركتنا الثانية مع صلاح حافظ.
فجأة فتح صلاح حافظ النار علي مجلة »‬ الشباب العربي »‬ التي كانت تصدر عن منظمة الشباب ووصفها بأنها مجلة عجوز.. كان جيل كامل من الكتاب الذين احترفوا الصحافة فيما بعد بدأوا مشوارهم فيها.. نصر نصار الذي انتقل إلي الإذاعة وأعير إلي بي بي سي ليعود إلي القاهرة ويقدم نشرة الأخبار في التليفزيون قبل أن يلقي حتفه في حادث سيارة.. وزوجته الشاذلي التي تخرجت في كلية الاقتصاد وعملت في صحيفة العالم اليوم وعبد القادر شهيب خريج الكلية نفسها الذي عمل في روز اليوسف قبل أن ينتقل إلي المصور.. وزميله في الدفعة عثمان محمد عثمان الذي اصبح وزيرا للتخطيط.. وعبد اللطيف حنفي الذي لمع علي صفحات الرأي في الأهرام.
كنت نتصور أننا سنغير المجتمع بدراساتنا ومقالاتنا وأبحاثنا الجادة وعبرنا عما نكتب بأسلوب جاف وكلمات ناشفة مصنوعة من طوب وزلط وهو ما أدي إلي ضعف توزيع المجلة وهو ايضا ما جعل صلاح حافظ يصفها بالشيخوخة المبكرة.. والسبب أنه لم يجد فيها ما يشغل الشباب وما يناسبه من حب ومرح وتجديد.. لكننا كابرنا فيما نفعل.. فالعناد هو الصفة الوحيدة التي كنا نتمتع بها ونحن نحرر المجلة.. بجانب تصورنا أننا علي صواب وأن الجيل السابق يستحق الإعدام.
رحنا نهاجم صلاح حافظ واتهمناه بالترويج لصحافة إثارة لا هم لها سوي اللعب علي غرائز القراء وهي التهمة التي طاردتني فيما بعد عندما اصبحت مسئولا عن تحرير روز اليوسف.
وجاء رد صلاح حافظ بليغا ومؤثرا : »‬ إن مجلة الشباب ليست فقط عجوزة وإنما عصبية أيضا »‬.
الدرس الصحفي الأول يتأكد بمثال آخر.. لابد من موهبة في التعبير.. لابد من أسلوب جذاب مؤثر.. وإلا تحولت القراءة إلي عقوبة.
لقد شاء القدر أن ادخل في معركة صحفية مع صلاح حافظ دون أن التقي به ودون أن أتصور أنه سيصبح فيما بعد »‬ الأسطي »‬ الذي سأتعلم تحت يديه.. أو الأستاذ الذي علمني مليون حرف ولم اصر له عبدا وإنما صرت صديقا.
لم يخطر ذلك ببالي.. بل إنني لم أتصور نفسي مناسبا لمهنة الصحافة.. وانصرفت إلي دراستي الجامعية متخصصا في علم الاقتصاد وهو علم يصعب تحصيله من القراءة الخاصة علي خلاف علم السياسة الذي يمكن استيعابه بسهولة استيعاب مناهجها.. لكن.. الأهم أن تخصصي في الاقتصاد كان بحثا عن مهنة مناسبة في بنك أو شركة بعيدا عن السياسة التي أعتزلتها قبل أن أبدأها.
علي أن القدر أجبرني علي التورط من جديد في السياسة عبر الصحافة.. أكثر مهنة تخشاها السلطة مهما كانت رحابة الحكم وديمقراطية الحاكم فالعلاقة بينهما احتياج متبادل لا يخلو من التربص.. الحاكم يريد أن يأكل لحم الكاتب نيئا أو مشويا والكاتب يسعي جاهدا للنجاة من سكين حاد ربما يهدد رجولته التي يلخصها في قلمه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.