ما كان أعظم هذا الوطن وهو يحقق ذاته في أكتوبر العظيم.. جيش يقهر ما ظن العدو أنه المستحيل، وينهي إلي الأبد الاسطورة الزائفة عن جيش اسرائيل الذي لا يقهر، ويثأر من هزيمة لم يكن يستحقها، ويستعيد الأرض والكبرياء، ويكتب صفحة ناصعة في تاريخ العسكرية المصرية ويجبر الاكاديميات العالمية أن تغير مناهجها في ضوء ما أبدعه من فنون الحرب وتاريخ العسكرية. وشعب كان خروجه العظيم في التاسع والعاشر من يونيو هو الرد علي الهزيمة، وهو الوعد بالثأر.. وكان صموده الجبار إيذانا بأن النصر قادم، وكانت لتضحياته الهائلة طوال سنوات حرب الاستنزاف ثم فترة الانتظار الأليم هي العون والمدد في الطريق إلي أكتوبر العظيم. ودولة كانت علي مدي خمسة عشر عاما تمر بأهم تجربة في التحديث، والتنمية، كان حصادها آلاف المصانع ومضاعفة للرقعة الزراعية بعد بناء السد العالي واسترداد قناة السويس.. وكان أعظم ما فيها عدالة اجتماعية أتاحت لأبناء الفلاحين والعمال أرقي التعليم بالمجان، لتكون الحصيلة أعظم طبقة وسطي في تاريخ مصر كانت هي المؤهلة لقيادة عجلة البناء في مصر والعالم العربي.. ومنها خرج جيش العبور بعد أن أصبح قوامه الاساسي من الجامعيين.. ومعها كان هناك اقتصاد قادر علي تحمل أعباء الصمود وتكلفة سنوات الجمر في الطريق إلي أكتوبر. ما كان أعظمنا ونحن نجني ثمار جهد عظيم علي مدي سنوات البناء قبل الهزيمة وسنوات الصمود وبعدها انتظارا للثأر وثقة بالنصر، وما كان أجدرنا بأن نكون الآن في الموقع الذي يليق بصانعي نصر أكتوبر، لو التزمنا علي مدي أربعين سنة بعد ذلك- بنهج اكتوبر، وسرنا في الطريق الصحيح!! لكننا - للأسف الشديد- اكتفينا بالحديث عن »روح اكتوبر» بينما كنا في الواقع نتبني سياسات لا علاقة لها بأكتوبر ودروسها العظيمة واكتفينا - في النهاية- بأن يتحول »أكتوبر» إلي مناسبة للاحتفال نسمع فيها بعض الأغاني المصطنعة، ثم نمضي بعد ذلك في طريق معاكس لا علاقة له بالحدث العظيم!! نسينا أننا في ظل أقسي الظروف، ومع كل تكلفة الصمود وحرب الاستنزاف والاعداد للعبور، حققنا أعلي معدلات التنمية، وعندما حدث الخلاف داخل الحكومة حول الاستمرار في برامج التصنيع، حسم عبدالناصر الأمر يومها، ورفض إيقاف قطار التنمية، منبها الجميع بأن هناك مليون مقاتل علي الجبهة سيقاتلون، وينتصرون، ثم يعودون بعد النصر.. فهل سنتركهم بلا فرصة للعمل ولبناء الأسرة وامتلاك المستقبل؟ وكانت الاجابة هي القرار الذي بني في هذه الظروف مجمع الالمونيوم وغيره من القلاع الصناعية التي مازالت حتي اليوم تمثل رصيدا لمصر وهي تواجه أعتي التحديات! ونسينا أن النصر لم يكن صدفة ولا كان سهلا، بل كان حصيلة جهد دءوب وعمل شاق لمصر كلها، وأنه ما كان يمكن أن يتحقق إلا برصيد ثورة يوليو واستثمارها في التعليم، وانحيازها للعدالة، وانتصارها للاستقلال الوطني.. ومن هنا كان جيش المليون الذي صمد وقاتل وعبر، ومن هنا كان الشعب الذي تقبل التضحية وتحمل كل العبء ليثأر من هزيمة لا يستحقها!! نسينا كل ذلك. فذهب حصاد النصر لمن لا يستحقه!! وأهدرنا قيمة العمل واجتهاد العمل، وفتحنا الباب للسمسرة والفهلوة لتتصدر المشهد ولتضرب الاقتصاد الوطني وتشل حركة التصنيع، وبدلا من الاستثمار في العلم أصبح الاستثمار في »مارينا» واصبح زواج السلطة مع الثروة هو الباب الملكي لفساد تحالف مع تجار الدين ليهدم كل ما بنيناه، ولتتحول »أكتوبر» من بداية للنهضة المنشودة، إلي نهاية للانتصارات!! لا نريد أن ننكأ الجراح، ولا أن نثير الخلافات، في ذكري حدث عظيم توحدت فيه الأمة وراء جيشها الوطني لتحقق النصر وتعبر المستحيل، لكن ما يمر به الوطن يفرض علينا ان نتوقف أمام »اكتوبر العظيم» لنسأل انفسنا: هل يمكن ان نستمر في التعامل مع »أكتوبر» علي أنه يوم نحتفل فيه بالنصر، ونقرأ الفاتحة علي شهدائنا الأبرار، ثم نطوي الصفحة ونعود لنسير في طريق غير الطريق الذي حقق النصر العظيم؟! أم أن علينا ان ندرك انه لا نهوض ولا تقدم إلا إذا تحول »أكتوبر» إلي نهج حياة وطريق تقدم وحيد نحو المستقبل؟! ماذا يعني ذلك؟! باختصار شديد.. كان »أكتوبر» حصاد صمود شعب توحد لرفض الهزيمة ومواصلة البناء، وعظمة العسكرية المصرية، وهي تبهر العالم كله، وكان »أكتوبر» انتصارا للعلم والتخطيط وإدارة موارد الدولة بأفضل صورة ممكنة، وكان أكتوبر »تتويجا» لسنوات من البناء والنهوض والانحياز للفقراء، والتمسك بالاستقلال والكرامة الوطنية، وكان في النهاية وعدا بأن تعود ثمار النصر وثمن التضحيات لأصحابها. لم يتحقق »الوعد» فتحول أكتوبر إلي »ذكري» نحتفل بها بكل فخر واعتزاز لكنها لا تتحول إلي نهج حياة وأسلوب عمل.. أصبح الحديث عن »روح أكتوبر» جزءا من التاريخ الذي أهدرنا أربعين عاما في تبديده »!!» طريقنا للنهوض لابد أن يمر من خلال »أكتوبر» بمعناها الشامل والصحيح. أن يتوحد الجميع لمواجهة الخطر.. أن يكون العلم هو السيد، وأن يكون التخطيط الدقيق هو السبيل، وأن تكون المهنية والكفاءة هي المقياس، وأن يكون الانحياز للوطن وحده، وأن تختفي القسمة الظالمة التي فرقت المجتمع بعد أكتوبر إلي الفريق الذي عبر، والفريق الذي هبر كما عبر بصدق عمنا الراحل محمود السعدني. نحتاج أكثر من أي وقت آخر لأن يتحول أكتوبر من احتفال سنوي إلي نهج حياة يحقق العبور الأكبر إلي المستقبل، فهل نفعل بعد أن ابتعدنا أربعين عاما عن »أكتوبر» وسرنا في الطريق المعاكس؟!