جمال الغيطانى بعد ثورة الثلاثين من يونيه عاد العلم المصري إلي مكانته في القلوب، ولعل الكثيرين لا يعرفون أن فكرة العلم مصرية أصيلة. ليس غريبا تلك الصلة التي تجسدت بقوة بين العلم والشعب المصري، بالطبع الاسباب عديدة، ولكن كثيرين لا يعلمون ان العلم في حد ذاته فكرة مصرية، أري العلم الآن اينما وليت وجهي، في الشرفات، الميادين، حتي المقابر المأهولة، حتي الإخوان المنافقون الذين لا يؤمنون بوطن أو حرمة أرض، رفعوا العلم المصري الوطني في مظاهرات رابعة العدوية بدلا من اعلام القاعدة السوداء والاعلام الاخري الغريبة التي لا صلة لها بمصر. فكرة العلم تتضمن الرمز، إنه تلخيص لوضع في الواقع نشأ نتيجة ظروف، أدت إلي الحاجة إلي لم الشمل، توثيق العري، اشاعة التعاضد، هذا اللواء دليل علي توحد الكلمة، والقلوب، فرغم تعدد البشر الا إنهم يمثلون جسدا واحدا، ان علاقتي بالعلم تتخذ اطوارا شتي، بدءا من المدرسة الابتدائية والحرص علي تحيته في طابور الصباح، حتي رؤيتي له مرفوعا فوق الضفة الشرقية لقناة السويس خلال حرب الاستنزاف، عندما عبرت كتيبة مشاة »600 جندي وضابط« واحتلت جزيرة البلاح ورفعت العلم المصري، وعبرت قوة منها لتحرر جزءا من خط بارليف وترفع فوقه العلم المصري، وتستمر لمدة اربع وعشرين ساعة، وقد امر قائد الجيش الثاني وقتئذ اطال الله عمره الفريق عبدالمنعم خليل، بتخصيص بعض وحدات المدفعية والقناة لابقاء هذا العلم مرفوعا ومنع العدو الاسرائيلي من الاقتراب منه، واستمر ذلك لمدة تتجاوز الشهور الستة حتي بلي القماش من المتغيرات الجوية وتقلبات الطقس، وكنت مع زميلي مكرم جاد الكريم كلما زرنا المنطقة نحرص علي رؤيته وتصويره والاطمئنان إلي وجوده، كان العلم الاسرائيلي مصدر ألم وتمزق نفسي، غير ان هذا الألم تواري عند وصولي يوم الأحد صباحا واقترابي من قناة السويس ورؤيتي العلم المصري مرفوعا فوق مواقع خط بارليف، انتابتني حالة من البكاء والركوع لتقبيل الارض، أصبح لكل جزء من جسدي المادي جهازه العصبي. هذا علم مختلف أمره، لقد رفع بالقنال، لمدة ست سنوات لم أر موضعه إلا علما غريبا لمحتل شرس، كنت أرقبه مباشرة، واحيانا من خلال المزاغل، ومرات من خلال البيروسكوب، في ذلك اليوم، الاحد مع شروق الشمس وصلنا إلي الجبهة، أول مجموعة من المراسلين الحربيين، كانت الجبهة تعيش حالة مشابهة لثورة الثلاثين من يونيو التي اطلقت شرارتها مجموعة تمرد الشبابية التي أوقدت الشعلة بثورة مصرية نقية، طاهرة لا ريب فيها، وبرغم ذلك لم نر أحد قادتها في مواقع الوزارة الجديدة، ولو ان هناك فهما لما جري في الثلاثين من يونيو لكان محمود بدر أو محمد عبدالعزيز أو أحد زملائهما علي قمة هذه الحكومة، ولكن التفكير التقليدي غلب وان كانت بعض الحالات الفردية تدعو إلي التفاؤل. عندما عبرت إلي الضفة الشرقية، مشيت فوق ارض سيناء والاشتباكات دائرة في الصباح الباكر، كنت أنقل البصر هنا وهناك، ثم أعود إلي العلم المصري بألوانه الثلاثة، اتأمله مرفرفا، ياه.. هل من المعقول أن تحدث هذه القطعة من القماش هذا التأثير كله حتي أنني لكنت أقبل الاستشهاد راضيا مرضيا بعد تحققي من هذه الرؤية، رفرفة العلم المصري فوق أرض سيناء التي كانت محتلة. ان تري العلم مرفوعا شيء، وأن تراه يرفع مكان علم أجنبي بعد قتال فهذا شيء آخر، وقد حظيت بذلك يوم السبت الثالث عشر من اكتوبر، تمام الساعة الحادية عشرة الا ثلثا. اما المكان فقطاع السويس، في مواجهة لسان بور توفيق، حيث اللسان الشهير الذي كان في موقع حصين يشبه المواقع التي تنشئها الدول العظمي، فيه من المؤونة ما يكفي المقاومة ستة شهور، لن استرسل في التفاصيل، ما يعنيني العلم المصري، لرفع العلم في جيشنا العريق تقاليد، عند التقدم إلي النقطة التي سيدق فيها الصاري، يرفع أقدم المحاربين رتبة العلم، وطوال تقدمه يجب الا يلمس طرف العلم الارض. أن تري العلم، رمز الوطن، يحل مكان علم المحتل، لحظة تتجاوز الازمنة والوجود كله، فلاستعدها كما كتبتها في الاخبار صباح الاحد الرابع عشر من اكتوبر . علم التحرير قال أحد المقاتلين، لحظة بدء اجراءات تسليم هذا الموقع الاسرائيلي المنيع علي الضفة الشرقية للقناة. بسقوط هذا الموقع يكون أقوي التحصينات الاسرائيلية قد سقطت في أيدي قواتنا..« صمت قليلا ثم قال »انه لم ير موقعا حصينا كهذا من قبل..« تتجه انظار المقاتلين إلي لسان بور توفيق، حيث يبدو الموقع الاسرائيلي وكأنه جبل صغير فوق الارض، كل مقاتل يتطلع ناحيته شرسا كالقتال الذي دار بين جنودنا والعدو المحتمي خلف هذه الجدران الصلبة، أسبوع طويل من القتال والخطر لا ينتهي، في الليل التقطت قواتنا اشارة لاسلكية خرجت من الموقع إلي قيادة العدو، يطلب فيها القائد ان يسلم الموقع عن طريق الصليب الاحمر. ها هو مندوب الصليب الاحمر يعبر القناة في قارب صغير، انفجارات مدافعنا تجيئ من الشرق، لقد اتخذت قواتنا احتياطات عديدة، جنودنا يحاصرون الموقع من جميع الاتجاهات، بتعبير أحد المقاتلين إنهم »يركبونه تماما«. فوق صحراء سيناء تبدو كتل غامقة متحركة، دباباتنا وعرباتنا تتحرك بسرعة، رجل الصليب الاحمر يصل إلي حافة الموقع، يرافقه بعض جنودنا، يظهر فردان من افراد العدو، ثم عدد اخر من قمة الدشمة بعد ان رفعوا غطاء مستديرا يشبه أغطية البالوعات، كأن الارض تلفظهم بعد ان ضاقت بهم يتحدثون قليلا مع ممثلي الصليب الاحمر، ينزلان القارب، الارض لا تزال تلفظ اعدادا اخري، بمجرد خروجهم يتهالكون جالسين، ومن بعيد كنت أكاد اصغي إلي لهفتهم الوحشية إلي الضوء والشمس بعد اسبوع قضوه سجناء الموقع والظلام والذعر، كنت قد ابتعدت عن تجمع الصحفيين الذي وقف يرقب الحدث، آثرت الوقوف فوق نقطة عالية بين جنودنا من افراد القوة التي تحاصر الموقع، هذه هي اللحظات الاخيرة بعدها يفك اسر الارض الحبيبة منذ ست سنوات كل مقاتل يقف هنا ينظر إلي الموقع، يتذكر أحد زملائه الذين استشهدوا في الهجوم عليه، هذه اللحظات التي يتم خلالها الآن عملية التسليم دفعت دماء غالية ثمنا لها، ان الرجال يتجمعون غير عابثين بطيران العدو وخلال الدقائق التي استغرقها الحديث بين فردي العدو وقائد التشكيل المصري ورجل الصليب الاحمر، قائد الموقع الاسرائيلي يرفع يده بالتحية للعلم المصري اراه يقف في وضع انتباه أمامنا. أحد المقاتلين من ابناء صعيد مصر، سنوات طويلة مضغ خلالها رغبته في الثأر، اندفع يهاجم هذا الموقع، المقاومة عنيدة وقاسية، كانت التحصينات القوية تساعد العدو علي التمركز خلفها، والبقاء أطول وقت ممكن، كان مدفع رشاش يطلق النيران باصرار، وأمسك مقاتلنا بقنبلة يدوية، صاح زاعقا.. - أنا جاي لك.. أحد القادة كان يسرع اذ يجيئه نبأ استشهاد أحد جنوده، أو إصابة أحدهم بجرح، يحمله فوق كتفه بنفسه، يذهب به إلي نقطة الاسعاف، كان اذا علم ان جنديا من جنوده جرح أو استشهد يضم قبضته، يضرب الحجر بحنق، ثم يبدأ في تخطيط خطوط نحيلة كأصابعه فوق تراب الارض أو رمالها، هذا القائد الشاب يقف الآن، انه يرقب اجراءات التسليم، لقد انهمرت الدماء والتضحيات، كان يمكن للجنود اقتحام الموقع وابادة من فيه، لكن ما دام قائده طلب الاستسلام عن طريق الصليب الاحمر فلابد من هذه الاجراءات التي تتم الآن، بعد قليل يرتفع العلم المصري فوق الموقع، الاستعدادات تتم لحمله إلي الضفة الاخري، مقاتل يخرج بعلم ملفوف من الموقع، الارض تميل ميلا خفيفا، يرفعه إلي أعلي، علي امتداد ذراعيه، يقول أحد الواقفين. -و بعد دقائق سيرفع العلم المصري فوق النقطة القوية.. الآن وإلي الأبد.. يسكت قليلا، يقول - انني علي استعداد للاشتباك معهم ليلا ونهارا.. ولو نفدت ذخيرتي اتمني لو ان جسمي طلقة يوجهها زملائي من خلال مدفع. يشير مقاتل آخر، إلي افراد العدو الذين تجمعوا كالقطيع. هؤلاء الجبناء لم يقابلنا واحد منهم بوجهه قط.. هذه النقطة القوية من اشد التحصينات، انظر كم من الافراد كان يقيم بها اكثر من اربعين فردا، كل هؤلاء استسلموا واظهروا الجبن، هل تتصور حجم هذه النقطة انها اشبه بمستعمرة صغيرة، لو أن ثلاثة منا فقط داخل نقطة كهذه لما استسلموا قط الا في حالة واحدة.. الموت. سبعة وثلاثون أسيرا.. منكسو الرؤوس، عيونهم زائغة، ممزقو الثياب، ملامحهم غريبة، خليط متناقض مع الارض المحيطة بهم، من الممكن ان اذهب إلي اليمن ، حضرموت، السودان، المغرب، صحراء »الربع الخالي«، إلي مسقط، إلي عمان، اينما ذهبت سأجد وجوها تبدو متلائمة مع واقعها المحيط بها، حيث الملامح عربية واللغة واحدة، والاصول الخفية لكن هؤلاء يبدون كمجموعة سائحين تمشي في حي شعبي، منهم افريقيا، خليط كالعصابة، قطيع، يتلاحقون القادم من امريكا، بولندا، اوربا، جنوب بجوار بعضهم، يطلبون الماء في شراهة، والسجائر وتقدم إليهم السجائر والمياه، هنا تتجسد صورتان متناقضتان، صورة دائما كانت تتكرر في تاريخ الحضارة المصرية، حضارة عمرها سبعة آلاف سنة تدفع عن نفسها بالعنف خطر مجموعة شراذم، جنودنا يرون فيهم اشباه آدميين بعد ان خرجوا من وراء الجدران القوية والصلبة والمدافع والدبابات، حاخامهم يحتضن كيسا احمر اللون عليه رسم نجمة داود، جنودنا يحملون خمسة جرحي، يدفعون بهم إلي عربات الاسعاف تنقلهم بسرعة إلي مستشفي السويس، أحد الجرحي يرتدي زي المدني تحت ردائه العسكري، قميص احمر اللون، جوارب برتقالي صندل بلاستيك، ازياء الباقين مختلطة ايضا، أحد الاسري يقفز متلهفا ليلتقف سيجارة ألقيت إليه كل منهم يبالغ في اظهار آيات الذل والمسكنة.. فجأة تتحول الانظار تسري حركة بين المقاتلين. قوة من المقاتلين، تمضي إلي الموقع، من فوق النقطة العالية يبدو طابورهم صاعدا في خط هائل، منذ أن لمح الرجال علمهم يخفق في الهواء والتكبير والهتاف بحياة مصر يهدأ، الموقف فوق الواقع الموقع أصفر اللون والبحر غامق الزرقة والسماء تشهق صافية والانفجارات الطيران تسقطه الصواريخ والاسري مستسلمون، مشهد لا يمكن ان يتكرر الا في حروب التحرير الوطنية، طابور الرجال مازال متجها إلي أعلي منطقة في اللسان طابور عرق وجهد وتدريبات قاسية، ومعاناة وجراح، وعزم واصرار، طابور يتقدمه قائد التشكيل يرفع العلم خفاقا، يسري شعور ملتهب بين المقاتلين، آه.. لكم يود كل مقاتل لو عاش زميله أو صاحبه الذي استشهد دفاعا عن كل ما يمثله هذا العلم ليري تلك اللحظة، الرجال يحفرون الارض، يثبتون الصاري، تلتهب الصدور.. التأثر يدفع الدمع إلي العيون، الصيحات ترجف الارض، الفراغ ومياه القناة والصخر تتصاعد إلي أعماق السماء والتاريخ.. الله اكبر.. الله اكبر.. الله اكبر تحيا جمهورية مصر العربية. تحيا جمهورية مصر العربية. تحيا جمهورية مصر العربية. يرفع قائد التشكيل يده بالتحية العسكرية، الحناجر لا تهدأ، الله اكبر تحيا مصر، تبادلوا العناق، الوطن كله هنا فوق الموقع الذي حرر، دباباتنا تبدو من هنا مندفعة إلي الشرق. لحظة رفع العلم تتجاوز كل شيء تعلو فوق الحياة نفسها، تصل الحلم بالواقع تجسد الامنيات التي كانت مستحيلة التحقيق تقضي الخوف وخطر الموت، وفداحة الثمن وتغسل الانسان، الحناجر تردد، الله اكبر، الله اكبر، من فوق رمال سيناء، من مواقع لا تري من فيها، يعلو صوت جنودنا، الله اكبر، فتبدو الارض وكأنها تزعق مهللة، والسماء تحنو وتحمي، تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر، وشيئا فشيئا تتوحد الاصوات في صوت جماعي، رهيب. بلادي.. بلادي.. بلادي لك حبي وفؤادي بينما يخفق العلم راسخا، صلبا.. وكانت الساعة، تمام الواحدة والنصف من ظهر اليوم السابع للحرب. الكتاب الوحيد في حدود ما قرأت وما أقتنيت لا أعرف إلا كتابا واحدا عن الأعلام في وادي النيل، للمؤرخ العسكري القائمقام عبدالرحمن زكي. وله عدة كتب عن الجيش المصري نفدت كلها، كتاب الاعلام طبع عام 1948 في دار المعارف المصرية وأنضم إلي مكتبتي يوم الأحد 15 نوفمبر 1971، الكتاب من ثمانين صفحة قطع كبير، وملزمة ألوان توضح اعلام وحدات الجيش المصري منذ ما قبل مينا وحتي عصر الملك فاروق، يقول المؤرخ الراحل، ان العرف جري علي ان يكون لكل وحدة أو مجموعة من الجنود الرمز أو الاشارة التي ترفعها عاليا علي سارية أو عمود لتكون واضحة مرئية خلال الغموض الذي تنشره المعركة. كان للشارات هدفان، الاول ان يدرك القائد أين وحداته وكيف تساهم في المعركة، ثانيا، ان هذه الاعلام كانت ترفع الروح المعنوية للقوات المحاربة، وترجع اقدم الاعلام المصرية إلي مرحلة توحيد القطرين، ويبدو أنها الاقدم في العالم. بعد تحرير مصر من الهكسوس ظهرت انواع عديدة من الاعلام، كل فرقة عسكرية كان لها علم، الكلمة المصرية القديمة للعلم هي »سريت«، علي جدران الدير البحري توجد اعلام عديدة علي جدرانه، وأقدم علم وصلنا كان علي شكل مروحة، يستمر المؤرخ الكبير في ذكر انواع الاعلام عبر العصور، ولحسن الحظ انني أقتنيت معظم كتبه كما انني ألتقيت به في منزله بجاردن سيتي في بداية السبعينات، ليت كتبه يعاد طبعها فلا توجد مراجع دقيقة عن الجيش مثلها.