كنا في الصف الرابع الابتدائي.. وفي الأسابيع الأولي من الدراسة وفي إحدي الحصص دخل إلينا عبده افندي وفي يده أحد التلاميذ وأدخله الفصل وقدمه لنا.. دا زميلكم الجديد عادل.. جاي محول م البندر.. أوعي حد منكم يزعله يابهايم ياولاد البهايم لأخرب بيت اللي خلفوه.. وضرب بعينه في الفصل وقال لعادل وهو ممسك بإحدي يديه ويشاور باليد الأخري.. اقعد جنب الولد دا.. هو طيب زيك.. وترك عبده افندي زميلي الجديد عادل يجلس بجانبي وشكر مدرس الفصل وانصرف.. وتأملت زميلي الجديد ولاحظت أن كل تلاميذ الفصل يفحصونه بأعينهم.. كان نوعية جديدة من البشر لم تمر علينا من قبل.. مظهره العام يوحي إليك بأنه مثل الأطفال الذين يظهرون في التليفزيون الوحيد الذي نشاهده في مركز شباب القرية.. وجه وسيم أملس ناعم لا يبدو عليه أي أثر من الشمس التي أحرقت وجوهنا جميعا ولا بواقي جروح قديمة نتيجة الحروب الطاحنة التي تدور بيننا في الغيطان أو أثناء اللعب الليلي.. ولا قشور وتشققات نتيجة أمراض الفقر وسوء التغذية التي كان أغلبية التلاميذ تعاني منها.. وكان شعره أسود داكنا ناعما مصففا بطبيعته بطريقة رائعة.. وتنبعث منه رائحة عطرية جميلة.. أما عن مظهره فكان أكثر روعة.. يلبس بنطلونا( بحزام جلد) وقميصا ناصع البياض وجاكت قطيفة.. وكل ما يلبسه نظيف ومكوي بشكل لم نتعوده ولم نره من قبل.. ويلبس في رجله حذاء( جلد) وفي يده يلبس ساعة أنيقة ويضع كتبه في حقيبة جلد تفتح وتغلق بواسطة( مسك).. قارنت بين لبسه ولبسي.. أحسست بالفرق الرهيب والشاسع بيني وبينه.. فقد كان لبسي عبارة عن بنطلون زفير تموين حزامه( أستك) داخلي مما يسمي( دكة).. وقميص اشتراه أبويا من سوق الاثنين.. الطريف ان هذا السوق كان مخصصا لبيع وشراء البهائم..!! وألبس في رجلي حذاء كاوتش قديما.. وأضع كتبي في كيس قماش من نفس نوعية البنطلون.. وجميع ما ألبسه ليس نظيفا بالمرة.. فقد كان به الكثير من البقع ومخلفات الحبر.. ورغم ذلك كان معلمو الفصل يعتبرونني إلي الأمس من( أوجه) طلاب الفصل.. لأن معظم الطلاب كانوا يلبسون( جلابية) و( قبقاب).. وكان غالبية الطلاب يحسدوني علي هذا( النيولوك)..! جلست مثل زملائي منبهرا بمظهر عادل وأكثر انبهارا بشخصيته وطريقته في الحديث وابتسامته العذبة الجذابة التي لا تفارقه.. أحسست أنه ليس من فصيلنا أو نحن كما وصفنا عبده افندي.. وبدأنا نتجاذب الحديث وحاولت قدر المستطاع استخدام نفس أسلوبه والبعد قدر الإمكان عن الألفاظ والمترادفات التي تثبت نشأتي الريفية.. ومن أول لحظة صارت بيننا صداقة حميمة تحدث هو عن حياته في البندر وأسرته ولعبه ومدرسته وفضلت أنا الاستماع إليه لعدة أسباب.. أولها الخوف من وقوعي في بعض الألفاظ التي تفضح صاحبها.. ثانيها انبهاري الشديد بشخصيته وحسن كلامه.. ثالثها أنه لا يوجد في حياتي ما يستحق أن أحكيه وأفتحر به أمام صديقي الجديد.. كل ما في حياتي الغيط والجاموسة وشيل الزريبة وضم الغلة وعزيق الأرض.. حتي ألعابنا كانت ذات أسماء تثير الاشمئزاز.. فمن غير المعقول أن يحدثني عن ألعاب مثل الليدو والبنج بونج والشطرنج وأنا أحدثه عن أم نمير.. وأمك في العشة ولا طارت.. وإبه خرا..!! وفي الفسحة كان موعد الغذاء أخرج صديقي من حقيبته كيسا وسألني.. تأخذ لانشون ولا أومليت ولا جبنة رومي ولا.... فقاطعته.. شكرا.. أنا مش جعان.. ورغم انني كنت في قمة جوعي وزاد جوعي أكثر وهو يأكل أمامي تلك المأكولات التي لم أسمع عنها من قبل.. وكان من عادتي أن أضع بين كتبي( زوادة) يومية عبارة عن رغيفين بينهما( لبن خض) ويكون هذا هو غذائي اليومي.. بالطبع لن أستطيع أن أظهر أمامه بهذه الصورة لهذا اليوم وجميع الأيام التالية.. وكانت حجتي انني لم أتعود علي الأكل خارج البيت.. ومرت الأيام وأصبح عادل هو محور اهتمام تلاميذ ومعلمي المدرسة.. لدرجة أن( الشيخ فتحي) وكان هو أهم شخصية في المدرسة لما يسببه من رعب وفزع للتلاميذ.. وكان قاموسا لا ينتهي من الشتائم ومعجم من الألفاظ الخارجة.. ومحتكر الأباحة.. والمادة الخام للبذاءة..! وكان يسمي بعدة مسميات التصقت به في المدرسة مثل( أمنا الغولة) و( أبو لهب) و( الشيخ هتلر).... أصبح الشيخ فتحي في وجود عادل يتكلم معه بمنتهي الحكمة.. ازيك يا بن الأفاضل.. وأخبار السيد الوالد لعله بخير.. وأخبار الأسرة الكريمة.. ولكن إذا كان الكلام لأحد غيره يكون من نوعية.. ياطور يابن الطور.. يانتن يابن النتن.. يانجس يابن النجس.. ياولاد الأنطاع.. يابني إنطح.. ياولاد ذوات الأربع.... وأصبحت مهمة الشيخ فتحي الأولي في الفصل هي إضحكاك عادل بأي شكل عن طريق إهانة أحد تلاميذ الفصل أو مجموعة من التلاميذ.. لا يهم الوسيلة أو العدد.. إنما الأهم أن يضحك عادل فيعتقد الشيخ فتحي أنه( خفيف الدم) فينتشي ويزيد في بذاءته.. أذكر أنه في إحدي المرات كان هناك طالب غبي ودائم النوم.. فوكزه الشيخ فتحي بالعصا قائلا ا.. أنا كنت باقول ايه..؟ فانتفض الطالب يفرك عينيه... فانهال عليه ضربا.. انطق.. قول يابن الكلب يا بقرة.. فصرخ الطالب بأعلي صوته قائلا.. يابن الكلب يا بقرة..!! فضحك عادل وضحك جميع الطلاب وهذا ما أغضب الشيخ فتحي فانهال عليه بالعصا في جميع أجزاء جسمه حتي عاد الطالب للنوم مرة أخري.. لكن اعتقد ان هذا الاحترام الكبير لعادل يرجع إلي( بطن) الشيخ فتحي المشهود له( بطفاسته) و( فجعه) المعروف عنه.. كان عادل يحضر له بعض الطعام والحلويات لاني سمعته أكثر من مرة يقول له بعض انتهاء اليوم الدراسي.. بوس إيد ست الكل وقول لها ربنا ما يحرمنا من فضلة خيرها.. وتعمقت صداقتنا ودعاني لزيارة بيته لمساعدته في استذكار مافاته من دروس ودخلت بيته وشاهدت محتوياته وأصبحت بحالة من الإحباط والتمرد بعد أن قارنت بين حياة عادل المحيطة به وحياتي.. قارنت بين بيته النظيف المنسق الذي يحتوي الكثير من الأثاث والأجهزة والتحف والستائر والمكاتب التي يذاكر عليها وأخوته وبيتنا الذي لايحتوي علي أي شيء سوي الحصيرة والحمل والطبلية.. قارنت بين أبيه الذي تظهر عليه ملامح الارستقراطية لما يمتلك من( كرش) ضخم ويلبس نظارة تساعده في قراءة الصحف.,. وأبي الفلاح النحيل الجسد الذي لايجيد أي شيء خارج نطاق الفلاحة.. وأمه ذات البدن الأبيض المترهل التي قابلتني بابتسامة دافئة حين دخلت البيت وقدمني لها عادل.. دا صاحبي ياماما وحانذاكر مع بعض.. قالت أهلا يا حبيبي.. وأمي التي لا تكل من الصراخ والدعاء علينا طوال اليوم.. قارنت بين معيشته وحسن الضيافة التي وجدتها.. لأول مرة أعرف أن طعام الغذاء تكون به أصناف متعددة من لحوم وأرز واخضار ويليه نوع من الحلويات ثم مشروب ساخن ثم فاكهة ثم عصائر وذلك بشكل يومي.. وبين طعامنا المكون من صنف وحيد فقط خال من الدسم والبروتين وغير مكلف للأسرة ويكون من إنتاج الغيط أو الجاموسة ويشترط فيه أن يكون غير قابل للبيع.. أو ما تبقي من البيع بسبب رداعته أو عدم مطابقته للمواصفات.. وإن بيع يكون هو أرخص الأصناف.. ومع ذلك كانت أمي تشتكي من أفراطنا الزائد في الأكل.. وكانت جميع المشروبات والحلويات غير مدرجة بالمرة في حياتنا.. وبدأت أتساءل في نفسي أسئلة شيطانية.. لماذا لم يخلقني الله مثل عادل..؟ ولماذا لا أعيش مثل معيشته حتي أكون فخورا بين أصدقائي...؟ ولماذا لا يكون لي بيت مثل بيته... وأبوان مثل أبويه؟.. ولهذه لأسباب قررت ألا أدعو صديقي لزيارة بيتنا رغم سؤاله أكثر من مرة واستفساره عن مكان البيت وعدد أخوتي ولكني كنت أتهرب دائما منه وفي أحد الأيام تقرراختيار أمين للفصل وكان هذا الاختيار يتم بطريقة بدائية عجيبة... ديكتاتورية في الاختيار وديمقراطية في التصويت.. يختار المعلم عددا من الطلاب بنفسه ويبدأ في التصويت عليهم.. واختار المعلم خمسة طلاب من بينهم أنا وعادل.. وانتابني إحساس بأني سأخسر هذا المنصب وسيكسبه عادل.. وذلك للفروق الكبيرة بيننا.. فمن المؤكد أن جميع الطلاب سيختارونه.. وبدأت أستعد لتقبل الهزيمة وأن احتفي بصديقي أمين الفصل الجديد.. وأخفي حزني لضياع منصب الأمين مني الذي تقلدته في السنوات الماضية وبدأ التصويت علي كل طالب.. وكانت المفاجأة أنني حصلت علي أغلبية أصوات الفصل وبفارق كبير عن عادل.. وكان عادل أول المهنئين بابتسامته العذبة التي لا تفارقه.. وفي قمة سعادتي دار سؤال في نفسي.. لماذا اختارني زملائي ولم يختاروا عادل..؟ وعلي الفور تذكرت صورة أبي وأمي واكتشفت ان لهما امتيازات كثيرة.. أبي فلاح بسيط روحه مرحة ومجامل للجميع.. ونادرا ما تجده وحده.. يجلس دائما مع الناس وليس له عداوات مع أحد.. قوي جدا رغم نحالة جسده ويتحاكي الفلاحون عن بعض مظاهر قوته.. منها أنه في إحدي المرات كان يركب حمارته ووصل إلي( مسقي) للمياه فرفضت الحمارة عبور المسقي فنزل من عليها ورفعها بين ذراعيه وعبر بها المسقي ثم عاد وركبها مرة أخري.. وأمي أيضا لها امتيازات كثيرة لا تقل عن أبي.. محبوبة بين جيرانها تساعدهم ويساعدونها في كل شيء.. ومن المؤكد أني اكتسبت منهما كثيرا من الصفات الحسنة التي جعلت مني طالبا متفوقا وجلعت زملائي يفضلونني علي عادل.. وفي طريق عودتنا من المدرسة سألني عادل.. تحب نحتفل فين بانتصارك اليوم يا بطل.. قلت له في كبرياء.. تعالي في البيت عندنا..