روي الإمام البخاري بسنده وروي غيره واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا فقال له رجل هل يأتي الخير بالشر فصمت النبي صلي الله عليه وسلم حتي ظننا أنه ينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه فقال أين السائل؟ قال أنا قال ابوسعيد لقد حمدناه حين طلع ذلك قال لا يأتي الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضرة أكلت حتي إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع. (رواه البخاري ومسلم والنسائي، وابن ماجة، والإمام أحمد). في هذا الحديث الشريف يقسم ابوسعيد الخدري رضي الله عنه علي أمه ومعه الصحابة حمدوا لرجل سؤاله رسول الله صلي الله عليه وسلم حين سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له: هل يأتي الخير بالشر؟ فأجابه رسول الله صلي الله عليه وسلم بما جاء في الحديث، فما وجه خوف رسول الله صلي الله عليه وسلم من بركات الأرض التي يخرجها الله لأمته والتي جعلت هذا الرجل يسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عما سأله عنه؟ وفي ذلك نقول أن الله عز وجل قال: "كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون" والفتنة اختبار شاق من ينجح فيه يكون من الفائزين، والفتنة بالشر أيسر من الفتنة بالخير، والشر إنما كان شرا من وجهة نظر الناس وإلا فكل ما يصيب المؤمن خير، كما قال رسول الله صلي الله: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ولا يكون هذا إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، فما يصيب المؤمن من ضر يجعله قريبا من ربه يكثر من الدعاء والضراعة يجأر لمولاه أن يكشف عنه ضره، أما الابتلاء بالخير من المال والولد والمتاع والمناصب والقوة والسلطان فيحتاج إلي قوة إيمانية عالية حتي لا يتجاوز به المؤمن حدود الله، وقل من يثبت في هذا الاختيار، ولهذا قال الله لرسوله صلي الله عليه وسلم: هذا المعني هو الذي نراه في الحديث والذي ساقه رسول الله صلي الله عليه وسلم وفق منهجه في تربية أصحابه حيث جاء اليهم فجلس علي المنبر حتي يراه كل الحاضرين وجلس حوله أصحابه فقال لهم: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم،أو كما جاء في الحديث: إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا، وما يخرج من الأرض. فضل من الله، والله يبارك فيه حتي يكون شيئا كثيرا قال عز وجل: "ولو أن أهل القري أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون". وسمي ما يخرج من الأرض بزهرة الدنيا تشبيها لها بزهر الشجر في بهجته وروائه وحسن منظره، والمراد بذلك ما يمنحه الله لبعض عباده من مال وأولاد وقصور ووفرة في المحاصيل وربح في التجارات وتمكين في الأرض وبسطة في العيش الي غير ذلك مما يمن الله به علي بعض عباده ليري من شكر منهم ومن كفر. ونتساءل لماذا سأل الصحابي رسول الله صلي الله عليه وسلم قائلا: هل يأتي الخير بالشر؟ ولماذا صمت رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يجبه مباشرة؟ وهل كان ينتظر الوحي من ربه؟ ونقول رأي هذا الصحابي أن ما يجود به الله علي عباده نعمة عظيمة فتساءل مسترشدا: هل يمكن أن تنقلب النعمة نقمة؟ ولم يجبه رسول الله صلي الله عليه وسلم، مباشرة، كأنه كان يوحي إليه، وقد ذكر ذلك ابوسعيد رواي الحديث فقال: فصمت النبي صلي الله عليه وسلم حتي ظننا أنه ينزل عليه ثم جعل يسمح عن جبينه فقال أين السائل؟ ولعل هذا كان من باب التشويق علي الإجابة. وهنا كيف أجابه النبي صلي الله عليه وسلم؟ نقول بين له أن الخير لا يأتي إلا بالخير ولكن الناس هم الذين يجعلون الخير شرا، وضرب لذلك أمثلة لأصناف الناس في تعاملها مع نعم الله هي علي وجه الاختصار كالتالي: الأول: هو الذي يأكل من المال فينهمك في ذلك حتي يهلك كالبهيمة التي تأكل مما ينبت الربيع من أشجار الحبط المحببة في طعمها للماشية فتظل تأكل وتشرب الماء فلا ترتوي حتي تهلك أو تقارب من الهلاك وهذا معني قوله صلي الله عليه وسلم: إن هذا المال خضرة حلوة وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم، والثاني: الذي يأكل من هذا المال ويحاول دفع ضرره فلا يستطيع حتي يهلك والثالث من أكل وحاول دفع ضرره فتمكن من ذلك فنجا، ومثاله في الحديث ما جاء في ذكر آكلة الخضرة التي أكلت حتي شبعت وامتلأت خاصرتاها ثم استقبلت الشمس فأخذت تجتر وتلوك ما اجترته فتمضغه ثم تخرجه وتعود فتأكل مرة أخري والرابع: من أكل من المال غير مفرط إنما أخذ بقدر الحاجة فهذا هو الناجي، وفي الحديث كثير من الدروس النافعة والعظات البالغة فنعم المال الصالح للعبد الصالح، فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.