تتسارع الأحداث والتطورات في المنطقة وتتلاحق التسريبات الخاصة, وفي أغلبها إسرائيلية, بشأن ما بات يعرف بصفقة القرن وقرب إطلاقها. وإذا ما نظرنا إلي ما تحتويه الصفقة الأمريكية من عناصر وبنود, حسب التسريبات المختلفة, نجد أن الخطة جار تنفيذها منذ زمن, ليس في عهد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب وإنما منذ عهد سلفه باراك أوباما الذي كان يسمعنا معسول الكلام علي عكس ترامب الذي بدا صريحا في دعمه لإسرائيل وعلاقته الفظة مع العرب والفلسطينيين. فقبل أن يصل ترامب إلي كرسي الحكم كانت أصابع الإدارة الأمريكية تلعب في المنطقة من خلال الثورات العربية أو ما أطلق عليه الربيع العربي لوضع الشارع علي حافة اليأس كي يقبلوا بأي تغيير, لتتقدم بعدها الإدارة الأمريكية بثوب المنقذ والمخلص لهم من تلك الحالة. كما أن إعادة الملف الإيراني إلي الواجهة من جديد وإظهار طهران علي أنها الشيطان الأكبر بعد تقسيم المنطقة طائفيا يصب في ذلك الاتجاه خاصة لجهة التطبيع وبناء تحالفات مع دول عربية كانت تشترط طي ملف الصراع العربي الإسرائيلي قبل فكرة التطبيع وتخلت اليوم عن ذلك مقابل الاصطفاف أمام هذا الشيطان. صفقة القرن التي تمثل الرؤية الإسرائيلية للحل تعمل واشنطن عليها قبل الإعلان عنها باعتبارها مشروعا لحل إقليمي شامل ليس بالضرورة أن يبدأ من فلسطين وإنما يستهدف بالدرجة الأولي الخليج, وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية تدير العملية من خلال وضع كل طرف مستهدف تحت وطأة الضغط تارة والإغراء تارة أخري, عبر توظيف اهتمامات تلك البلدان أو الملفات التي تؤرقها. والملاحظ هنا أن الإدارة الأمريكية ولأول مرة منذ فتحها خطوط التواصل المباشر مع الفلسطينيين أواخر الثمانينيات في تونس تهمش الجانب الفلسطيني وتعمل علي التفاوض مع دول الإقليم واضعة في الوقت ذاته حلولا أحادية لقضايا الوضع النهائي بما يتلاءم مع رؤية إسرائيل ويخدم مخططاتها التوسعية. في المقابل إسرائيل التي يمكن القول أنها بدأت منذ عهد شارون بتنفيذ خططها الهادفة إلي ضم مساحات كبيرة من الضفة الغربية بالجدار والاستيطان وحصر الدولة الفلسطينية بقطاع غزة الذي جري الانسحاب منه في ذلك العهد, بدت متعجلة ومتحمسة بشأن صفقة القرن استنادا إلي قرارات إدارة ترامب حول القدس والاستيطان واللاجئين التي اعتبرها نيتانياهو بمثابة انتصارات شخصية له, وهو يعزو ذلك إلي نجاحه في التصدي لسياسات إدارة أوباما التي سعت وهي تحاول إحياء مفاوضات السلام إلي فرض تجميد الاستيطان علي إسرائيل, وكيف أنه أفشل ما تحدث به أوباما في خطابه بالقاهرة(4/6/2009) عن حق الفلسطينيين بدولة مستقلة وضرورة تجميد الاستيطان ووقف هدم المنازل الفلسطينية, واستطاع هو بالتالي, تجاوز المفاوضات دون تقديم شيء للفلسطينيين, إضافة إلي تمكنه من إقناع وزيرة الخارجية الأمريكية في الإدارة السابقة هيلاري كلينتون بتحميل الجانب الفلسطيني مسئولية فشل المفاوضات المباشرة التي لم تلتئم سوي مرتين, واصطدمت برفض تل أبيب الخوض في بحث القضايا الجوهرية في الصراع, وبخاصة مسألتي الحدود والقدس, وتمسكت بموقفها القاضي باقتصار البحث علي ملف الأمن. علي كل حال; الانقلاب الحاصل في السياسة الأمريكية بعد وصول ترامب إلي الحكم فيما يتعلق بالملف الفلسطيني يمكن وصفة بالتغير في آليات التنفيذ وليس في المحددات, فإدارة ترامب لم تأت بقوانين لم تكن موجودة وإنما هي بادرت إلي تطبيق قوانين كان الكونغرس الأمريكي اتخذها منذ عقود والإدارات السابقة ظلت تؤجل تفعيلها وتطبيقها, مثل نقل السفارة إلي القدس وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وغيرها من القرارات التي تمس القضية الفلسطينية. ويبدو أن ترامب استخدم أسلوب الصدمة في تعامله مع الملف الفلسطيني وملفات المنطقة, فما قيل عنه من أوصاف شخصية تتعلق بأسلوبه في العمل, يبدو أنها فتحت الطريق أمامه لاتخاذ أي قرار كانت الإدارات السابقة عاجزة عن اتخاذه أو تفضل تحاشيه, فهو بدأ مباشرة بالضغط علي الجانب الفلسطيني لقبول الرؤية الأمريكية التي هي صورة مطابقة للشروط الإسرائيلية مصرا في الوقت ذاته علي تنفيذها دون الالتفات إلي موافقة الفلسطينيين أم لا. هذه الرؤية التي كانت ترجمة لمواقفه في الحملة الانتخابية, تمثلت في إزاحة ملفات القدس واللاجئين والاستيطان عن طاولة التفاوض, فبعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل حاصر وكالة الغوث الدولية الأونروا بقطع المساعدات عنها وأعلن تشجيعه للاستيطان الذي لا يري فيه معيقا للسلام ولا لولادة الدولة الفلسطينية. لكن ترامب ما كان ليخطو مثل هذه الخطوات لولا أنه وجد أرضية خصبة في المنطقة بعد أن ساهمت الأوضاع التي تعيشها الدول العربية من صراعات بانشغال كل منها بما لديها, بما في ذلك الحالة الفلسطينية التي تعيش هي الأخري انقساما وغيابا للبرنامج الوطني الموحد. وبالاعتماد علي ما هو مقسم في الوضع الفلسطيني فإن الصفقة تبدو مبنية علي قطاع غزة كي يكون لب الدولة الفلسطينية إن لم يكن هو الدولة وتمزيق الضفة الغربية إلي ثلاث مناطق تفصلها المستوطنات وتتواصل بشبكة أنفاق وجسور تمنح حكما ذاتيا واسعا والعاصمة أبو ديس المحاذية للقدس. وطالما أن الحديث يجري عن دولة غزة فإن الحاكم هناك هي حركة حماس, لذلك بدأت واشنطن عبر وسطاء لترويض الحركة التي بادرت إلي مغازلة الإدارة الأمريكية وإعلانها الاستعداد للتفاوض مع واشنطن في الوقت الذي تعيش فيه الأخيرة قطيعة مع رام الله, وهو ما يمكن أن يسهل علي إدارة ترامب وهي تبحث عن قيادة فلسطينية بديلة تسويق الصفقة بخارطة جديدة. الجميع هنا يعي شكل تلك الخارطة ويعلم أيضا انتهاء فكرة حل الدولتين وإنما يجري من إجراءات لفرض حلول علي الفلسطينيين هدفه قتل حلمهم في الدولة, لكن المهم هنا أن إسرائيل ومنذ نشأتها لم تنجح في نزع الوطن من عقول وأفئدة الفلسطينيين ولن تتمكن من تجريدهم من شخصيتهم السياسية التي باعتقادي ستستمر في ملاحقة الاحتلال كالشبح في المؤسسات الدولية بما فيها محكمة الجنايات للحفاظ علي بقاء القضية الفلسطينية حاضرة في السياسة الدولية. ربما يكون ذلك هو الخيار المتبقي للقيادة الفلسطينية وهو خيار لا يمكن لأحد أن يسلبه منها, هذا إلي جانب الرفض الشعبي لمثل هذه الصفقة التي تتنكر للحقوق الفلسطينية, وبالتالي فإن صفقة القرن التي ستقف في محطات أخري غير فلسطين لا يمكن أن تكون قدر الفلسطينيين الذين ينتجون كل يوم لونا جديدا من المقاومة.