نوفمبر, الميلاد والوفاة, القدوم والرحيل, الوصول والمغادرة, صرخة الحضور إلي دنيا الهموم, وصرخة الخروج أيضا. في الحالتين تحضرنا الصرخة. ولد أستاذنا عبد الرحمن الشرقاوي في نوفمبر1920, وغادرنا في ذات الشهر, وبين الحضور والانصراف سبع وستون عاما. منذ أيام, مر علي رحيله ثلاثون عاما, وما رحلت كتاباته. يعرفه الكثيرون عبر روايته( الأرض), والتي حولها يوسف شاهين إلي إحدي علامات السينما المصرية والعربية. ما زالت شخوصها حية وطازجة. محمد أبو سويلم, رمز الأرض. المتغلغلة جذوره في تلافيف طبقاتها, المروية عظامه من قطرات نيلها, المصبوغة بشرته من أصيل شمسها, المنسوجة ملابسه من لوز قطنها, الخشنة كفه إن عطش طينها, واللينة إن شرب. مشرعة أكفه مذار قمح وياسمين. هامته, مستقر العصافير والبلابل. أكتافه, موائل العقاب والنسور. صدره, أرض يحصد خيراتها صباح مساء ليطعم بها أبناء المحروسة. ارتبطت كتابات الشرقاوي بأرض المحروسة, يسقيها من دمعه حين يعز فيضان النيل, ويحبس ماءه, لشهور الجفاف, في مآقيه غيما ومطر. مع كثير من الفوارق, يكاد محمد أبو سويلم في روايته الأرض أن يكون هو نفسه مهران, بطل مسرحيته الفتي مهران. بالتأكيد تختلف الشخصيات في تفاصيلها والروايات في زمانها, ولكن تظل شخصية المصري المنحوت من صوان صخرها, المدفون قلبه في طينها, المسفوع وجهه من صهد شمسها, المحبوس نيلها في شرايينه, شغله الشاغل. علي العكس من سمت الشرقاوي الهادئ, تتسم كتاباته بالثورة والتمرد, معجونة هي كلماته بمفردات العدل, المساواة, الحرية, والإخاء. يقول الفتي مهران:( قيود, قيود, كفانا قيودا وخل القيود لأعدائنا, فكيف يكون مصير الوطن, وكيف نحارب أعداءنا ونحن نجرجر أصفادنا؟, وكيف سنسمع قرع الطبول وعزف النفير, وصيحة مستنفر للجهاد, وصلصلة القيد ملء الاذان). يستحلب الشرقاوي مفرداته من قاموس الوعي بالحاضر والإدراك التام لتجارب التاريخ, يسحب خيط من قلب كومة خيوط التاريخ المتشابكة تفاصيلها ومنمنماتها, الكثيرة التعقيد والتداخل. بمهارة يخلي ما بين الخيوط, يسحب طرف خيط, لا نظنه يأتي بجديد. ثم, رويدا, رويدا, ترتسم في الأفق ظلال ليست كالظلال, ويردد الأفق صدي أصوات, ليست كالأصوات, ثم ها نحن نكتشف الدلالة والرمز, ما ظنناه حدوتة نتسامر بها في ليالي الملل, ليست سوي حكاية ذات مغزي تغازل الأفهام. في رسالته للوالي يقول مهران,( إن عمالك قد طاردوا الصدق في القلب, فما عاد اللسان ينطلق, بسوي الكذب, وما عاد جنان بعد يهجس, بسوي الزيف, وهذا كله حصاد الخوف, هذا الخوف منك, يجعل الناس كأعواد تردد, كل ما ينفخ فيها من عبارات الولاء, إن هذا الخوف منك, هو لن يهدم غيرك, فاعتراض صارخ ممن يحبك, لهو خير ألف مرة, من رضي كاظم غيظ يرهبك). أيضا, يلخص مهران موقفه وموقف ملايين مثله فيقول:( هذا قضاء حياتنا, نحن الذين يموت أفضلنا ليحيا الآخرون, بلا دموع. نحن الذين نخوض معركة المصير بلا دروع, ضد اللصوص الدارعين. نحن الذين ظهورهم كصدورهم مكشوفة للطاعنين, نحن الذين بلا خوذ, لم ينعكس وهجها علي جبهاتنا, وعروقنا بالرغم من هذا يؤججها لهيب الشوق في أعماقنا). عندما تحل ذكري كاتب, مولد أو رحيل, تبعث كلماته من جديد, تغادر فراش الأوراق, تستيقظ من سباتها الطويل, تطل من رفوف النسيان, تستحيل قناديل تشع الضياء فيما حولها, تنير ظلمات الحاضر وتشق في ضباب المستقبل دروبا للأمل, فنهتدي بقبسها الوهاج. سلاما استاذنا.