(لا تصدق كل ما يقوله السياسيون, خاصة في أثناء الحملات الانتخابية), قال أحد الأصدقاء الإسبان منذ نحو ثلاث سنوات معقبا علي سؤالي له عن رأيه في تنامي الدعوة لانفصال إقليم كتالونيا آنذاك , ثم هز كتفيه وأردف مبتسما,( تسعي الأحزاب إلي حصد أكبر عدد من الأصوات, حتي ولو علي حساب الانفصال).مع صخب الاستعداد للانتخابات, اختلطت الأفكار والآراء ببعضها البعض, والتبست علي الجميع فلم يتبينوا الغث من السمين, وها هي مدريد تستيقظ اليوم علي وقع الانفصال. ما إن حطت الطائرة في مطار برشلونة الدولي, حتي تململ الركاب في مقاعدهم يتعجلون الخروج بعد رحلة امتدت لتسع ساعات تخللتها ثلاث ساعات انتظار بمطار مدريد. اتجهت وزميل لتسلم حقائب السفر. عبثا بحثت عن حقيبتي, فلم أجدها. هدأ زميلي من روعي قائلا,( لا تقلق. ستعود إليك حقيبتك), ثم أردف( أنت في مطار برشلونة, ولست في مطار آخر). ما إن استمعت موظفة شركة الطيران إلي شكواي حتي علا وجهها الأسف والتعاطف. سجلت بياناتي, ورقم هاتفي واسم الفندق الذي سأقيم فيه ساعاتي الثماني والأربعين القادمة حتي إيابي للمحروسة, ثم ناولتني حقيبة صغيرة تحتوي بعض اللوازم الضرورية. شغلني ضياع أمتعتي عن التطلع إلي معالم برشلونة التي تبرز ثراء وغني إقليم كتالونيا, المتميز اقتصاديا. الآن تترقب الطرقات ردود الفعل الإسبانية والعالمية إزاء إعلان الإقليم قرار الانفصال. مدريد,تؤكد أنها ستسترد الإقليم, وأن ما حدث ليس سوي أمر عارض. لم تنقطع تصريحات الرفض والتنديد بالانفصال من أنحاء العالم. لم تقصف برشلونة كما قصفت كردستان العراق جراء خطوة مماثلة.الجميع يستبعد اللجوء للحل العسكري, المفضل والأثير في عواصم العالم الثالث. طبقا لترتيبات مسبقة, أشارك بعد ساعتين من وصولي الفندق في حفل عشاء يتطلب زيا رسميا لا يتناسب واعتيادي السفر بالجينز. غادرت غرفتي إلي صالة الطعام ورحت كلما سلمت علي أحد المدعوين أقص عليه ما حدث مع حقيبتي, شغلتني أجواء الحفل ثم داهمتني الكآبة حال انصرافي واسترجاعي معاناة أحد الأصدقاء حين فقد حقيبته وداخ السبع دوخات في الاتصال بالشركة والمرور علي مكتبها, وتلقيه ردودا من قبيل( لما نلاقيها نتصل بك), وكأنه المسئول عن ضياعها, ثم فرحته بمكالمة أخبروه فيها عثورهم عليها, وهناك حولوه إلي قسم المفقودات حيث سين وجيم, ثم تفتيش دقيق لكل جزء في الشنطة, وعندما تسلمها سمع الجملة الشهيرة( حمدا لله ع السلامة يا باشا), فدس يده في جيبه مرغما, ثم انصرف غير مصدق خروجه سالما. ما إن أضأت مصباح الغرفة, حتي أيقنت أنني في الغرفة الخطأ, راجعت الرقم المدون علي المفتاح فوجدته مطابقا لنظيره المعدني اللامع والبارز علي الباب, أعدت التفكير لوهلة, فتذكرت أن الحقيبة المستقرة إلي جوار السرير ليست سوي حقيبتي المفقودة, أو التي كانت مفقودة, ولكن كيف جاءت إلي هنا. مرت ملابسات الساعات القليلة الماضية كشريط مصور استغرق برهة من الزمن, تذكرت تدويني اسم الفندق الذي سأنزل فيه في مكتب شركة الطيران. الآن اتضح الأمر, اتصلت بمكتب الاستقبال في الفندق, فعرفت أن مندوب الشركة أتي بالحقيبة وسأل عني, ونظرا لعدم وجودي في الغرفة آنذاك, فقد سلمها لموظف الفندق وانصرف, ليضعها الآخر بدوره في الغرفة. لم يطاوعني قلبي علي فتح الحقيبة, فوجدتني أهرول إلي خارج الغرفة وأطرق باب غرفة زميلي, ففتح منزعجا قلقا فبادرته قائلا( صدقت, إنه مطار برشلونة وليس مطارا آخر).