التقينا بعد سنوات طويلة من الغياب, تقريبا نصف ما عشناه من عمر قضينا أيامنا نلهث بين صالات السفر والترحال تصاريح خروج وتأشيرات دخول دموع وبسمات وحقائب تحمل ما لم تتسع له الصدور من هموم مشتتين بين بلاد الصهد, والنفط, والغاز في يميننا تذكرة سفر, وفي يسارنا حقائب متعبة ومن خلفنا يمتد خيط دخان العمر كذكري عابرة آثر البعض الرحيل وآثر آخرون الالتصاق بالمحروسة, لا يغادرونها ولا تغادرهم تتغلغل جذورهم في طينها كل صباح شبرا وراء شبر امتدت أغصان وجفت أخري أورقت أشجار وعجفت أخري. قبل غروب شمس العمر, وتحديدا وقت الأصيل, نتلفت ملهوفة عيوننا في كل اتجاه, نبحث عن رفاق العمر, عن نفس يدفئ ليل كسره البرد, عن صوت يؤنس وحشة العمر, عن صدر يصلح صندوق أسرار, تفتحه وقتما تشاء, وتغلقه وقتما تشاء, عن ضحكة ضالة, فما وجدنا كل هذا سوي عندهم أول الغيث قطرة, جرجرنا الزمن البعيد إلي شمس الحاضر, فإذا هو غض طازج ريان ما أن بللته قطرات الذكريات حتي عادت أغصانها ندية, يمتد ظلها في الآفاق.. في تحلقنا حول الماضي, نكحت جدار الذاكرة, فلا نبقي له أثرا..نفس الضحكة, رنة الصوت, ذات الروح, وكأننا تركناهم بالأمس فقط, اشتعل الرأس شيبا وصارت النظارة رفيقا مقربا يشعرنا بالأنس, من دونها تتحول السطور والحروف إلي هلام غير محدد الملامح لا بدايات ولا نهايات نتحسسها في جيوبنا قبل الخروج, وحال الرغبة في القراءة, ومراجعة فواتير ما زالت تدهشنا بلياقتها العالية وقدرتها المدهشة علي تخطي التوقعات لم يترك علماء النفس شيئا إلا وجعلوا منه حروفا وكلمات تقرأ شخصياتنا وتخبرهم بحالنا أقوالنا تصرفاتنا ردود أفعالنا ملابسنا, وغيرها من أمورنا الاعتيادية والعفوية حتي نظاراتنا. في روايته الشهيرة, النظارة السوداء, تختبئ الألوان خلف الأسود, أو أن الأسود يأكل ما عداه من ألوان, حينئذ تنعدم التفاصيل وما تحمله من معان.. الليل والنهار, الخير والشر, الكل لديها سواء عقب تعرفها إلي عمر, الشاب المجتهد, تتغير نظرتها للحياة تعيد اكتشاف ما حولها, تقبل وترفض, تميز الألوان تلقي نظارتها السوداء, لتري كل شيء علي حقيقته ثم تنقلب الآية, فتصبح هي دليل عمر للنجاة كما تدين تدان. وإن شئت الدقة, نظاراتنا في طفولتنا نقرأ بحيادية تامة, من دون حاجه إلي عدسات, مع الوقت يداهمنا قصر أو طول النظر, تتشكل مفاهيمنا فتختلف رؤيتنا, حجما ورسما دائرية مستطيلة, مربعة, أو بدون إطار, هذا بخلاف العدسات وسمكها. في اللقاءات المتباعدة, وفي حمي النقاش, يخرج كل متحدث نظارته الخاصة, يتأمل بها ما حوله, يفتش بها في ضمائر ونوايا الآخرين, ثم يصدر أحكاما غير قابلة للاستئناف سياسة يمين ويسار دينية, مسلم قبطي, سني شيعي نظارات شتي, ومظلة واحدة مظلة إخاء محبة, مودة, تمتد ذات اليمين وذات الشمال, يتزاحم الجميع تحتها, فلا ينفرطون حتي وإن اختلفت أفكارهم نعم لكل منا نظارته, ولنا جميعا مظلة واحدة.