رغم كونه زقاقا شعبيا لا يتجاوز عرضه المترين, إلا أن نجيب محفوظ استطاع ببراعته أن يحول أحداثه إلي رواية عالمية تحكي تبعات وآثار الحرب العالمية الثانيةعلي المواطن المصري البسيط. حميدة, نوارة الشارع والحارة,وما تحمله من دلالات رمزية في الاسم والمكان,حتي سقوطها ضحية للإنجليز, في إشارة إلي المحروسة الواقعة تحت الاحتلال آنذاك. عباس الحلو,الحرفي البسيط الشهم والمحب لحميدة. تزخر رواية زقاق المدق بشخصيات أخري عديدة. رغم وجودها علي الهامش إلا أنهامؤثرة. من حين لآخر,تطرق شخصية الشيخ درويش باب ذاكرتي. تراه شاردا جامدا كأنما غاب عن المكان والزمان, فإذا نطق أيقنت أنه ضمير الزقاق الحي. درويش تائه بين الماضي والحاضر. رسمه محفوظ ببراعة رمزا لتشتت وتيه أجيال كاملة بين الثقافتين الشرقيةوالغربية. دائما ما ينهي حديثه بترجمة آخر كلماته,(أليس لكل شيء نهاية؟; بل لكل شيء نهاية... ومعناها بالإنجليزيةend, وتكتبe,n,d), قال معقبا علي موت عباس الحلو. يعطيه نطقه للحروف الإفرنجية إحساس من يمتلك المعرفة والخبرة والحضارة, ولكن هيهات هيهات لمن اكتفي بالوقوف علي عتبات الكلام ونسي العمل. ما ينطبق علي الأفراد يسري علي الأمم, استخدام عناوين جذابة بينما المحتوي فارغا تصفر فيه ريح الجهل. في الثمانينيات, شكل الرئيس الأمريكي رونالد ريجان لجنة للبحث في شأن التعليم, انتهت برفع تقريرها المعنون( أمة في خطر). يختلف مفهوم الخطر لدي الكثيرين. تأخر ترتيب دولة ماعن قائمة العشر الأوائل في البحث العلمي يراه البعض خطرا, بينما تكتفي أخري بالبحث في سراويلها المهترئة عن مبررات, غياب القوة العاملة التنافسية أحد المخاطر التي تواجه نظام التعليم الأمريكي, غياب المعايير الدولية من حيث المحتوي وعدد ساعات التدريس وكفاءة المدرس والتطور المستمر للمناهج والتعليم التفاعلي وإبراز النواحي الإبداعية, مخاطر أخري تكتنف النظام. علي النقيض من الشيخ درويش, عرفت( المسيو), هكذا يناديه من يعرفونه, فناديناه بها. غلبت عليه كنيته حتي نسي الكثيرون اسمه. يلقي التحية فيردها البعض ويتجاهلهاآخرون. يخب في مشيته حتي يكاد يتعثر في البدلة التي لم تفارقه ولم يفارقها لأعوام. تداخلت ملامح الجاكت واحتفظ بأثر ما وقع عليه من أطعمة ومشروبات. تلمع أكمامه بفعل اتساخ سكنها ويرفض الرحيل. بالسؤال, راعني رجوع شهرته بلقب( المسيو)إلي إتقانه ثلاث لغات, الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. نزل بلدتنا الصغيرة قادما من العاصمة كمدرس للغة الفرنسية في مدرستنا الإعدادية الوحيدة.اكتشفوا اتقانه الإنجليزية مع قلة مدرسيها, فأضافوها إلي جدول حصصه. التصق به لقب( المسيو) حتي في حصة اللغة الإنجليزية. انهمك في التدريس وأنساه غياب الطموح ما يملك من لغات. مضت أيامه من حصة إلي أخري, ومن فصل دراسي إلي آخر, حتي وجد نفسه علي المعاش وحيدا, لا زوجة ولا أولاد. فقط, هو ولغاته الثلاث. معاش متواضع لا يكفيه ذل السؤال, وبضعة جنيهات يدسها طلاب الجامعة في يده لقاء ترجمة بعض الأوراق. أضاعه غياب الطموح, وغطاه ركام التجاهل في زقاقات النسيان. الفارق بين الدرويش والمسيو شاسع وكبير, الأول يظن أن ما يعرفه من كلمات محدودة هو تمام إدراكه للحضارة الغربية فتحول إلي درويش, تائه عن الحاضر غائب عن المستقبل. والثاني( المسيو) حاز العلم ونسي توظيفه, فعاش سجين لغاته, دونما استفادة حقيقية. الأول رسمه محفوظ, والثاني فرضه الواقع, الدرويش والمسيو, ومع هذا, بقيا وجهين لعملة واحدة, التيه, وإجابة لسؤال واحد, من نحن؟.