علي إثر تداعيات الحرب العالمية الثانية, شطرت ألمانيا إلي قسمين, الأول شرقي الهوي والسياسة يدور في فلك الاتحاد السوفيتي, ونظريات لينين وماركس, والصراع بين البرجوازية والأرستقراطية من جهة, وبينها وبين البروليتاريا من جهة أخري. بينما ولي الجانب الغربي وجهه شطر أوروبا وأمريكا, معاقل الرأسمالية ونظريات آدم سميث وجون كينز. بخلاف الآثار السلبية للانقسام علي الألمان, بدا الجانب الغربي, بعاصمته بون, أكثر جاذبية. دفع الكثيرون من الشرقيين حياتهم ثمنا لمحاولات عبور خاسرة هربا من ديكتاتورية الأخ الأكبر وبوليسه السري. رغم ضآلة مساحتها, بدت بون, رحبة بفضاءاتهاالمتعددةوانتماءاتهاالغربية, وإن انعكس ضيق المساحة علي الكثير من غرف فنادقها. خطوة واحدة تكفي لقطع المسافة من السرير إلي خارج الغرفة أو دورة المياه. عليك إعادة حساب حركاتك ولفتاتك اللاإرادية,التي اعتدت عليها مع البراح, فحركاتك العفوية تعني حتمية اصطدامك بشيء ما. بانهيار سور برلين ذاب الجميع في بوتقة واحدة وانتقلت الكثير من المؤسسات الحكومية من ضيق بون إلي براح برلين. أخلي البوندستاج( مجلس النواب) مبناه الشاهق وأهداه إلي الأممالمتحدة لتجاورأكبر مؤسسة عالمية للشحن السريع,DHL, ومبني التليفزيون الألماني,DW. الانتخابات علي الأبواب, امتلأت الشوارع باللافتات تحمل صور ووعود المرشحين. دعاية منظمة تملأ الشوارع وتؤكد احترام القانون. طبقا للاستطلاعات, تصدر الحزب الديمقراطي المسيحي برئاسة أنجيلا ميركل المشهد, ينافسها مارتن شولتز زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي. الحصول علي أغلبية تكفي لتشكيل الحكومة وتتجنب التحالف مع أحزاب أخري هو ما يؤرق المتنافسين, ولكن هيهات.في الدول الديمقراطية, يغيب الرقم تسعة عن نتائج الانتخابات,ولا توجد أغلبية مطلقة. سحب قرار ميركل استقبال مليون لاجئ من رصيدها الانتخابي إلي رصيد منافسيها, وخاصة حزب البديل وحركة بيجيدا المناهضين للإسلام.شارك في الانتخابات76% ممن لهم حق التصويت, حصلت منها ميركل علي32% فاستحقت ولاية رابعة. تخطي حزب البديل عتبة10% من الأصوات أزعج الرأي العام. عادة, يثير تحرك الكتل الانتخابية فضول المحللين والسياسيين. ما يبدو اليوم عابرا, قد يصبح في الغد واقعا مريرا. في أحد الأماكن العامة, اقترب مني رجل أسمر البشرة, خمسيني العمر, وعرفني بنفسه.ألماني من أصل صومالي, له أكثر من خمسة وعشرين عاما في ألمانيا, تنقل بين أعمال يدوية عديدة, حتي استقر. سألته بعفوية, هل كل شئ بخير؟. نم وجهه عن امتعاض زاد من تعثر لغته العربية الممزوجة بلكنة أعجمية, ثم قال( أنا لست سعيدا. أنا في بلد غير مسلم. أنا لا أحب هذا البلد). تعجبت وسألته, لك ربع قرن في بلد غير بلدك, وجئت إليه بمحض إرادتك, ثم أصبحت أحد أبنائه, كيف يكون هذا شعورك تجاه بلد أطعمك من جوع وأمنك من خوف. أنت الآن رجل ألماني. نظر إلي وقال في آسي,( المشكلة فيما نعيشه من تمييز. لوني يخبر الجميع أنني لست من أصول ألمانية, بطاقة هويتي لا تهم. هنا لون بشرتي هو هويتي. تقتلني ابتسامات السخرية عندما ينقل رجل الأمن عينيه بين بطاقتي ووجهي). غشاني صمت, ورحت أفكر فيما يقول, وتساءلت بيني وبين نفسي, ما الفرق بين ما يقوله تجاه ألمانيا وبين ما يروج له حزب البديل تجاه المهاجرين. يقف الاثنان علي المسافة نفسها من كراهية الآخر.بمشاعره السلبية تجاه ألمانياحصل حزب البديل علي مظلة شرعية أدخلته مجلس النواب, فلا يدخر الآخر, بدوره, وسعا فيبادله كرها بكره.