لا تطيق بيروت صبرا حتي تخبر زائريها بسر قوتها الناعمة. ما إن تطأ قدماك عتبة مطار رفيق الحريري حتي تطالعك وجوه لبنان بسماتها الشرقية وصبغتها الغربية وانحناءاتها القياسية. مشغولة هي بيروت بمقاييس نسائها, تعب الخراط, وما تعبن. أمسكن بالفرشاة والقلم ورحن يحددن ويقسمن ويصبغن. اخترعن لكل زاوية وناصية مواصفات خاصة تتفاوت صعودا وهبوطا. مهووسات بالأناقة, وإن نسين أن ملابس النهار تختلف عن السهرة وتبتعد كثيرا عن ملابس البحر. لعن الله النسيان الذي أصاب كثيرا من بنات حواء فأنساهن تبديل ملابس المطبخ. مرح وانطلاق, أقل ما يوصف به أهل لبنان. أينما وجدوا, يبحثون عن السعادة, يلقون بهمومهم في البحر أو أقرب سلة مهملات, بينما نحرص نحن علي ألا نخلع سترة أحزاننا صيفا وشتاء, ولا حتي لنغسلها, فنتخفف منها قليلا. ربما نخشي أن تختلط بكومات أحزان الآخرين فلا نعرفها. خبز عجين اللبنانيين بالفرحة والبهجة وعطر بماء الورد, وعندما جاء دورنا, لم نجد سوي دقيق الهموم والأحزان. إبان الحرب الأهلية اللبنانية, قسمت بيروت, وتحول أهم شوارعها التجارية, شارع الحمرا, إلي خط تماس يفصل بين شقيها الشرقي والغربي ويحتل القناصة نواصيه. علي مدار اليوم يسكن الشارع الموت والأشباح, فإذا ما حل وقت وقف إطلاق النار, عجت المقاهي بالزبائن وعمرت المحلات بروادها, حتي تظن أنك في مدينة أخري لا يعرف أبناؤها الحرب والدمار. السياحة والاقتصاد, هما عصب اقتصاد لبنان. أكثر من ثمانية ملايين لبناني ينتشرون في أنحاء العالم أينما ذهبت وجدتهم تصحبهم شطارتهم في البيع والشراء, وجرأتهم في الاستثمار, بينما تتجمع تحويلاتهم بالعملة الصعبة في بيروت, لذا تنتشر محلات الصرافة علي النواصي, ومن لم يملك محلا وقف عند تقاطعات الطرقات يبيع ويشتري. لبيروت طعم يتغير علي مدار الساعة, فما تتذوقه صباحا يختلف مساء. تتنوع النكهات, والقسمات, وتتغير التفاصيل. للسياسة, أيضا, حضور طاغ في أجواء لبنان, تلقي بصبغتها وظلها علي كل ما يقال, بداية من تحية الصباح, وانتهاء بالتظاهرات المفرطة في الديمقراطية. عمت القمامة الشوارع, فرفع المتظاهرون شعار( طلعت ريحتكم) في وجه الساسة, وبقي المعني واضحا. ذاقت لبنان مرارة التفتت والتشظي والانقسام. زادت أسباب الهجرة سببا جديدا يضاف إلي كسب العيش, والرغبة في حياة أفضل. هل كان الوجود الفلسطيني في الجنوب اللبناني السبب المباشر للحرب الأهلية. ربما؟. ظهرت مليشيات مسلحة تحت رايات عقائدية وسياسية, مسيحيين, موارنة, شيعة, سنة, دروز, وثقل إسرائيلي, وجود سوري لا يمكن تجاوز دوره في الحياة السياسية والعامة. ذكريات قاتمة, شهدت تداول ادعاء انتصار فصيل علي آخر, بينما الضحية( لبنان) مسجي مضرج في دمائه يعلوه شعار القتل علي الهوية. تعلم اللبنانيون من ماضيهم الكئيب مهارة السير علي حد السكين دونما جراح. ألزمهم التنوع المفرط في فسيفساء السكان اتباع البروتوكول اللائق والمناسب, حتي لو أسكرتهم خمر السياسة وظن البعض أنها القاصمة, تبقيهم شعرة معاوية علي اتصال. في وسط بيروت, وبالقرب من مبني مجلس الوزراء, لا يزال برج المر( نسبة إلي مالكه ميشيل المر) شاهدا علي الحرب, لم يكن قد انتهي العمل به عندما بدأت الحرب الأهلية, فاستخدمه القناصة مركزا لهم. انتهت الحرب, وما زال البرج علي حاله, ذاكرة ترفض الرحيل حتي بعد ما تحولت جدرانه إلي عيون من أثر الطلقات, وأفواه من أثر القذائف, ورادعا لمن يفكر في العودة إلي ماض لا يتناسب وشعب يعشق الحياة.