كان النبي- صلي الله عليه وسلم- مرهف الحس فياض العاطفة رقيق الشعور عظيم الرحمة وقد حفظت لنا كتب السير والسنن مواقف مختلفة مرت به- صلي الله عليه وسلم- فاهتزت لها مشاعره وتأثر بها وجدانه فيحزن قلبه وتدمع عيناه ويبكي. عن الوضين أن رجلا أتي النبي- صلي الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان فكنا نقتل الأولاد وكانت عندي ابنة لي فلما أجابت وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها فدعوتها يوما فاتبعتني فمررت حتي أتيت بئرا من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديت بها في البئر وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه يا أبتاه فبكي رسول الله- صلي الله عليه وسلم- حتي وكف دمع عينيه, فقال له رجل من جلساء رسول الله- صلي الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله- صلي الله عليه وسلم, فقال له: كف فإنه يسأل عما أهمه ثم قال له أعد علي حديثك فأعاده فبكي حتي وكف الدمع من عينيه علي لحيته ثم قال له: إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا فاستأنف عملك رواه الدارمي. كان من أبشع عادات الجاهلية التي كان يمارسها بعض قبائل العرب قبل الإسلام عادة وأد البنات ومعناها دفن البنت حية وقد سجل القرآن الكريم عليهم ذلك المشهد البغيض فقال تعالي: وإذا الموءودة سئلت* بأي ذنب قتلت- التكوير:9,8- وحتي الذي لم يكن يئد ابنته كان يحزن حزنا شديدا إذا ذكروا له أنه رزق ببنت يقول تعالي:وإذا بشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم* يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه علي هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون-59,58- وكان لهم تفنن في الوأد فمنهم من كان إذا ولدت له بنتا حفر لها حفرة ودفنها وهي حية ومنهم من كان يلقيها من شاهق ومنهم من كان إذا حملت امرأته وضعها علي شفير حفرة فإن ولدت ولدا أخذه وإن ولدت بنتا رمي بها في الحفرة وردم التراب عليها وها هو هذا الرجل يروي لرسول الله- صلي الله عليه وسلم- طريقة من طرق وأد البنات في الجاهلية قام هو بها حيث قال يا رسول الله دعوت ابنتي لتخرج معي ففرحت فأخذتها فألقيتها في البئر وهي تستغيث وتقول يا أبتاه يا أبتاه, فلم استجب لاستغاثتها, وهنا بكي النبي- صلي الله عليه وسلم- رحمة بها وشفقة عليها وسال الدمع من عينيه الشريفتين حتي نهر أحد جلسائه الرجل وقال له أحزنت رسول الله لكن النبي قال له دعه فإنما يسأل عما أهمه, ثم أمر النبي الرجل بإعادة ما قال وهنا بكي النبي- صلي الله عليه وسلم- مرة أخري وسأل الدمع من عينيه علي لحيته الشريفة ثم طمأن الرجل بأن الإسلام يهدم ما قبله من أعمال الجاهلية فمن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.