قرر البريطانيون الانفصال عن القارة الأم والعودة الي شكلهم الأصلي ليكونوا جزيرة مرة أخري بعد43 عاما من العلاقات المتوترة مع الكيان الأوروبي. وربما لم يكونوا أبدا جزءا من القارة الأم. فمنذ أن طالبت بريطانيا بانضمامها الي السوق الأوروبية في عام1961 كانت تفرض شروطا تطالب فيها السوق الأوروبي بإجراء تغييرات في القواعد والقوانين الخاصة بالسوق لتناسبها. كان المسئولون والأحزاب السياسية يريدون الانضمام, ولكن بشروطهم حتي لا ينصهروا تماما داخل الكيان الأوروبي. فمع تكوين السوق الأوروبية بين ستة من دول أوروبا الغربية: ألمانياوفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج وإيطاليا, رفض الرئيس الفرنسي شارل ديجول طلب بريطانيا وأوضح أن بريطانيا هي بمثابة حصان طروادة الذي يحمل بداخله الولاياتالمتحدة, حال دخول بريطانيا السوق فسوف تدخل معها أمريكا لتفرض شروطها. قال ديجول إن بريطانيا مرتبطة اقتصاديا بالولاياتالمتحدة, فهي لا تنظر شرقا الي القارة الأم العجوز, ولكنها تنظر عبر الأطلنطي الي العالم الجديد الذي طردها منه قبل مائتي عام; كما ارتبطت بريطانيا بالكومنولث, وبشكل خاص بحلف الأطلنطي إذ وافقت علي ربط سلاحها النووي مع قوات حلف الأطلنطي المتعددة تحت قيادة أمريكية, وهو ما رفضه ديجول وغادر الجناح العسكري من حلف الأطلنطي لهذا السبب, لذلك كان يري أن بريطانيا هي وسيلة الولاياتالمتحدة للتحكم في أوروبا وسلب فرنسا استقلالها الوطني; وأكد الرئيس الفرنسي أن بريطانيا لا تريد الانضمام حقيقة إلا لكي تغير قواعد وروح السوق الأوروبي. وأوقف ديجول المفاوضات مع بريطانيا مرتين في عامي1961 و.1967 ولكن بريطانيا ظلت تحاول المرة بعد الأخري, ولم تحصل علي مطلبها الا بعد أن تنحي شارل ديجول عن الحياة السياسية, ووافقت فرنسا برئاسة جورج بومبيدو علي انضمامها الي القارة الأم في عام.1973 ومع ذلك, لم تكن بريطانيا أبدا جزءا كاملا من الكيان الأوروبي, ففي عام1979 رفضت لندن المشاركة في النظام المالي الأوروبي حفاظا علي سيادتها الوطنية والنقدية, بل وطالبت ثاتشر الاتحاد قائلة: أريد استعادة أموالنا وهي الأموال التي أسهمت بها في الميزانية الأوروبية; كما رفضت منذ ذلك الحين كل الإجراءات التي كان يقررها الاتحاد من أجل تحقيق الاندماج الكامل بين الأعضاء, ففي عام1985 رفضت بريطانيا الانضمام الي نظام شنجن وفتح حدودها لحرية التنقل البشري والتجاري وفي عام1993 رفضت الانضمام الي العملة الموحدة الأوروبية. واليوم عندما احتفل اليمين البريطاني بنتائج الاستفتاء وقال لقد حصلنا علي استقلالنا كان يردد مفهوم مارجريث ثاتشر الذي أعلنته في عام1988 في خطابها أمام جامعة بورج حين صاحت قائلة تصف الكيان الأوروبي: دولة أوروبية ضخمة تمارس سيطرتها من بروكسل. لذا فإن الصدمة التي أصابت كل الأسواق المالية والحكومات في العالم من قرار الشعب البريطاني لم تنبع من خروج بريطانيا الفعلي ولكن من تأثيره النفسي المحتمل علي الدول الأخري, خاصة في وقت تعاني فيه دول الاتحاد الأوروبي أزمة اقتصادية ومالية طاحنة, أكثرها تجسيدا في اليونان, ولكن نفس الأزمة موجودة في أسبانيا وإيطاليا وفرنسا ومعظم الدول الأعضاء في الكيان الأوروبي, والاضطرابات بالإضافة الي تدفق المهاجرين ضاعف من الأزمات. وهي الأزمات التي دفعت أحزاب اليمين المتطرف في معظم الدول الأوروبية وكذلك في الولاياتالمتحدة لان تحرز شعبية كبيرة ولأن تبتهج من جراء نتيجة الاستفتاء ودفعت زعيم الحزب اليميني في هولندا لأن يطالب بإجراء استفتاء مماثل في بلاده للخروج من الاتحاد. والأيام المقبلة سوف تكشف عن المزيد من المفاجآت.