لا يمكن إدراك معني مصطلح التهييس السياسي إن جاز التعبير إلا بتحليل سريع لما جري خلال اليومين الماضيين من تخبط الإدارة الأمريكية إزاء مواقفها المعلنة من سبل حل الأزمة السورية وموقع الرئيس السوري بشار الأسد فيها. فبعد ساعات قليلة من إدلاء وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تصريحات أكد فيها أن الأسد يجب أن يكون طرفا في أي مفاوضات ترمي إلي حدوث تحول سياسي, تلك التصريحات التي أثارت حفيظة وانتقاد وسخط حلفاء الولاياتالمتحدة في كل من فرنسا وبريطانيا علي وجه التحديد وفي أوروبا علي وجه العموم ومنطقة الخليج العربي, لكونها تمثل تراجعا كاملا عن موقفها السابق منه بعدما كانت تعتبره رئيسا فاقدا لأي شرعية وأنه يتوجب عليه الرحيل من السلطة, حتي أن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو ذكر أمس أن التفاوض مع الأسد يشبه مصافحة أدولف هتلر وصدام حسين ورادوفان كارادزيتش وسلوبودان ميلوسوفيتش مما يسلط الأضواء علي خلافات تركية أمريكية بشأن التعامل مع بشار. خرجت جين ساكي المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية بتصريحات جديدة تنسخ ما قاله كيري تماما في محاولة خائبة منها لتصحيح ما قاله رئيس مؤسسة الدبلوماسية الأمريكية بقولها: إن السبيل الوحيد لإنهاء معاناة الشعب السوري- من وجهة نظر أمريكية- هو التوصل إلي تسوية سياسية في إطار مبادئ عملية جنيف, مشيرة إلي أن بلادها كانت تصر دائما علي ضرورة وجود ممثلين للنظام السوري وليس شخص الرئيس الأسد كجزء من هذه العملية, وأضافت أن كيري لم يكن يقصد بتصريحاته الأخيرة التلميح إلي الأسد!!. يمكن تلخيص ما جري بتعبير يتناسب مع قدر التخبط الذي وقعت فيه واشنطن وهو أن إدارة أوباما مارست الترويج لموقفها الجديد الذي تعرضت بسببه لانتقادات حادة بطريقة تذوق أولا التي يتبعها الباعة الجائلون خلال تسويق منتجاتهم بتقديمها للزبائن أولا ليتذوقوها حتي إذا لم ترق لهم قدمت لهم البديل الذي يرضيهم ولو علي سبيل الخداع المؤقت أوما يمكن وصفه ب الدبلوماسية ع الذواق إذا جاز التعبير. أضافت ساكي أن الهدف ظل دائما هو وجود ممثلين من الجانبين أي المعارضة والنظام السوري للتفاوض معا, مؤكدة أن المفاوضات تعتبر عنصرا مهما في العملية السياسية, مشددة في الوقت نفسه علي عدم حدوث أي تغيير في السياسة الأمريكية!!! ولفتت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية إلي أن تصريحات كيري الأخيرة في ميونيخ أكد فيها أنه ليس هناك مستقبل لبشار في سوريا!! والمؤكد أن أي مراقب للأزمة السورية لا يمكنه قبول التفسير الساذج الذي ساقته ساكي بخصوص تصريحات كيري والاقتناع بسهولة بأنها كانت غير مقصودة, فكلام وزير الخارجية فضلا عن كونه يعكس ما تراه الإدارة الأمريكية بدقة محسوبة, لا يمكن أن يخرج بطريقة عفوية تقبل التراجع السريع عنه علي هذا النحو المرتبك. محاولات ساكي لعلاج الأمر زادته سوءا لأنها بدت وكأنها تلعق تصريحات الوزير أمام الرأي العام العالمي, ما يقلل من مصداقية واشنطن. والحقيقة أن ما أعلنه كيري بخصوص استعداد بلاده للتفاوض مع الأسد- وفقا لصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية- يعكس السياسة الحقيقية لإدارة أوباما وتعني أنها تنفض يدها من سوريا وفي الوقت نفسه تأمل في إبرام اتفاق بشكل منفصل مع إيران حول برنامجها النووي وتتعاون معها لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي, هذا ما ذكرته الصحيفة أمس في مقالها الافتتاحي. الصحيفة أضافت أن تنصل أمريكا وقوي أخري من وعودها بمنع حدوث عمليات قتل جماعية إضافية في سوريا بعد4 سنوات من الحرب الأهلية المسعورة متعددة الأطراف, وقالت: منذ رد نظام بشار الأسد للمرة الأولي بالسلاح علي المظاهرات قتل نحو6% من الشعب السوري أو أصيب بجروح, فضلا عن مغادرة23% للدولة, وتحول معظم المدن الكبري خارج دمشق إلي ركام, فضلا عن انقطاع83% من الكهرباء حسبما أظهرت مجموعة من الصور التقطت بالأقمار الصناعية. ولفتت إلي أن إدارة أوباما التي أعلنت فيما مضي أن منع حدوث إبادة جماعية في سوريا هو إحدي أولوياتها, لم تتظاهر حتي بأن لديها استراتيجية بشأنها منذ انهيار مؤتمر السلام في جنيف منذ13 شهرا, مشيرة إلي أنه رغم قيام الولاياتالمتحدة بتجنيد وتدريب بضعة آلاف من السوريين لقتال داعش, ترفض في الوقت نفسه إلزام نفسها حتي بالدفاع عنهم إذا تعرضوا لهجوم من جانب قوات الأسد. ووفقا للصحيفة ذكر مسئولون بارزون في الإدارة الأمريكية أن البيت الأبيض يخشي حدوث رد فعل معاد من جانب إيران, التي أرسلت قوات وميلشيات لتحارب لصالح النظام السوري. وأوضحت أن كيري أثار ضجة عندما أشار في تصريحاته الأخيرة إلي استعداد واشنطن الآن للتفاوض مع الأسد, وفي الواقع, تبنت الإدارة الأمريكية منذ مدة طويلة موقفا يتلخص في أن النظام يمكن أن يشارك في تسوية سياسية طالما أن الأسد نفسه لا يشكل جزءا منها. هذا هو الوجه الحقيقي لواشنطن.