هل مازال في مقدورنا أن ننفعل بشجن الحديث عن ثنائية الغني والفقر, فما أحوجنا إلي الانفعال في زمن خمدت فيه الهمم وباتت فيه هذه الثنائية البغيضة وكأنها من فعل الطبيعة وهي في حقيقة أمرها من صنع أيدينا. لنستهل القول بأن تاريخ البشرية في جوهره ما هو إلا دراما متصلة الصراع بين من يملك ومن لا يملك, بين من يملك السلطة والقوة والقدرة والثروة, ومن حرموا منها أو سلبوا إياها, أنه مسلسل الغني والفقر المزمنة التي تلطخ جبينه, لعجز الساسة والاقتصاديين والمصلحين والاجتماعيين والتربويين, كما يعجز المفكرون والمنظرون المبشرون منهم والمنذرون ليؤول الأمر في نهائية المطاف إلي صناديق الدعم ووكالات المعونة والإغاثة, وتمضي قافلة الفقر العالمية في مسيرتها الذليلة, تائهة بين حلم اللحاق ووهم إقامة الوفاق مع الأغنياء, وتتعدد المصطلحات والفقر واحد.. حيث يزخر خطاب التنمية الإنسانية بالعديد من مرادفات الغني والفقر من قبيل: التقدم والتخلف, الشمال والجنوب, المركز والأطراف, ما بعد الصناعي وما قبل الصناعي, وآخر ما تفتق عنه ذهن خبراء التنمية هو مصطلح( الفجوة الرقمية) ويقصدون به تلك الفجوة التي تفصل بين من يملك المعرفة وأدوات استغلالها, وبين من لا يملكها وتعوذه أدواتها. إن الفجوة الرقمية تتردد أصاؤاها في إرجاء المجتمع الإنساني, وقد بدأ يترنح بفعل المتغير المعلوماتي, ويعاني اضطرابا شديدا يكاد يصل إلي حد الفوضي العارمة.. وهكذا أصبحت الفجوة الرقمية شاغل الجميع وتحظي حاليا باهتمام كبير, سياسي واقتصادي وتكنولوجي وإعلامي, وقد احتل موقعا بارزا في القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي عقدت في جنيف وقد سبقتها في ذلك العديد من المؤتمرات والمبادرات الدولية والإقليمية. في ضوء ما سبق يحق القول إن الفجوة الرقمية( فجوة الفجوات) أو الفجوة الأم التي تحمل في رحمها كل بذور التخلف المجتمعي وكل ما نجم عن فشل مشاريع إنمائية سابقة, ومن شبه المؤكد أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء: إن استمرت الحال علي ما هي عليه سيزداد اتساعا وبمعدلات متصاعدة بفعل المتغير المعلوماتي.. بالبشاعة تلك الحياة البائسة علي الجانب المظلم من تلك الفجوة الرقمية, ويكفينا لنقل الصورة المفزعة لدي تصدع المجتمع الإنساني جرعة صيرة من إحصائيات الغني والفقر حيث كانت نسبة متوسط دخل الفرد ما بين أفقر الفقراء وأغني الأغنياء, التي وردت في تقرير التنمية الإنسانية عام1999, الذي أصدره برنامج الأممالمتحدة الإنمائي هو أنه في عام1820, كان المتوسط1:3 وقفز في عام1992 ليصبح1:72, وذلك بفعل أثر الثورة الصناعية أولا ثم في بداية أثر المعلوماتية وبداية تفاقم الفجوة بفعل العولمة. لقد سئم العالم من وصاية الشمال علي الجنوب من تكرار خطاب التنمية التكنولوجية المتهالك, ولم يعد هناك من يصدق حلول اللمسة السحرية الإلكترونية, وقد أيقن الجميع أن مصير البشرية لا يمكن أن يترك في أيدي أقطاب السياسة وسادة الاقتصاد ومن ورائهم أباطرة الإعلام. فها هي الأصوات ترتفع في كل مكان مطالبة بألا يلقي العالم النامي مصيرا مجهولا, وها هي الحركات المناهضة للعولمة تنطلق من كل حدب وصوب من اتحادات العمال, ومن جماهير الطلاب ومن نشطاء البيئة ومنظمات حقوق الإنسان, ومن كثير من مؤسسات المجتمع المدني العالمية والإقليمية والمحلية.. ومعظم هذه الحركات المناهضة للعولمة تأتي هذه المرة من قلب المعسكر الرأسمالي ذاته مما يدل علي مدي التصدع الذي يعاني منه المجتمع الإنساني اليوم, والبديل المطروح حاليا هو( عولمة المقاومة) وتصعيد أجندة العولمة المضادة إلي مستوي الفعل. كاتب وأديب