تتعافي أرض الكنانة رويدا رويدا. تتجه بسرعة إلي الأولوية التي وضعتها, أي الي الاستقرار بعد مرحلة من المراوحة السياسية والشعبية والأمنية. تتعافي أرض الكنانة وسط رعاية عربية قل نظيرها, ووسط صلابة امام ما كان مرسوما لها أمريكيا... قل نظيرها أيضا. انما ليس بالرعاية وحدها تبني الأوطان ولا بالصلابة تستقر ولا بالشعبية تتقدم. تحتاج مصر اليوم إلي الاستقرار الاقتصادي بالدرجة الاولي. جميل أن تري الناس تؤيد وتشارك وتصفق, لكن للعاطفة أوقات وللبناء اوقات اخري, وحتي تتناسب إمكانات مصر الاقتصادية مع دورها السياسي وموقعها الاستراتيجي لا بد من تغيير جذري في العقلية الادارية التي حكمت طيلة العقود السابقة, ولا بد من اجراءات صارمة حتي ولو كانت انعكاساتها قاسية علي المدي القصير. أي مسئول مصري تلتقيه, أي رجل أعمال, أي مواطن, يمكنه ان يلخص لك المشكلة بعفوية مطلقة. الخزينة منهكة بسبب دعم المواد الاساسية. الدين يرتفع بسبب المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية خاضعة لتدخل الدولة وغياب الموارد سواء في اتجاه الحماية منعا لحصول أزمة. القطاع العام متخم بالتوظيف والقطاع الخاص يتقدم خطوة ويتراجع خطوات في ظل الوضع العام من جهة والقوانين المكبلة من جهة ثانية والتجارب غير المشجعة من جهة ثالثة. ودائما دائما كنت وغيري نتساءل عن الحجم الكبير من الأزمات التي يتعرض لها رجال الاعمال المصريون اذ لا يكاد يمضي شهر في السابق الا وتسمع عن قضية ضد هذا وذاك الي درجة صارت كلمة بيزنس مان غير مستحبة او ستلحقها قضية إلي درجة صارت كلمة غير مستحبة. لا يمكن لمصر ان ترفع الدعم عن السلع الاساسية اليوم لكنها لا يمكن ان تستمر في الدعم بكل جوانبه علي الاقل. طبعا لا بد من مراعاة الجوانب الاجتماعية حيث يعاني جزء كبير من أهلنا في مصر من مصاعب الحياة, انما لهذا الأمر حلول أخري. كما لا يمكن لمصر ان تركن الي المساعدات المالية من دول الخليج وغيرها( وهي بالمناسبة واجب واستثمار مستقبلي) لأن مشكلات مصر لا يحلها التدفق المرحلي للسيولة. بادئ ذي بدء, يتطلع المصريون الي تغيير العقلية البيروقراطية التي حكمت القطاع العام المهيمن علي مفاصل الدولة منذ عقود. هذه العقلية لم تعد تمت الي اقتصاديات العصر الراهن بصلة. لا بد من تشريعات مرنة حديثة تحفظ حقوق المصريين من جهة وتسمح باستقطاب آلاف المشروعات الصناعية والزراعية والمالية والتجارية من جهة أخري. أما أموال الدعم التي ستحصل عليها مصر من الأشقاء والاصدقاء فالأفضل ان تكون موجهة إلي مشروعات ضخمة معدة سابقا وواضحة المعالم, بدل ان تكون كميات نقدية محفوظة كوديعة دعم هنا أو للاستفادة من فوائدها هناك او لصرف العاجل من المستحقات. ان المشروعات المشتركة بين مصر ودول الخليج علي سبيل المثال اذا أديرت بأسلوب القطاع الخاص فانها تسمح بتنمية قطاعات كثيرة وتؤمن فرص عمل للمصريين برواتب جيدة وتبقي الكتلة النقدية في الدورة الاقتصادية الداخلية. وهنا لا بد من تأسيس مجلس اعمار أو هيئة أو مؤسسة مهمتها فقط ادارة القادم من مشروعات بذهنية حديثة علمية ربحية متخصصة من دون اي اعاقات بيروقراطية او تشريعية. السياسة انعكاس للاقتصاد وليس العكس, واذا امتلأت مصر بالمشروعات المشتركة وفق السياق الذي ذكرناه فالاستقرار سيكون سيد الموقف في العلاقات الخارجية, والمصالح المشتركة ستكون عنوان التقارب والدعم والمؤازرة بين الأطراف. في موازاة ذلك, لا بد من تعميم ثقافة الانتاج لمحاربة ثقافة الاستهلاك, ولابد من طبقة جديدة يعمل العهد الجديد علي تكوينها تكون رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تعمم تجربتها تدريجيا الي مختلف المناطق. ومع تقدم التجربة ونجاحها وتحديث الإدارة وتحول مصر كلها إلي ورشة تنموية وتقدم الشباب المصري المتألق في ميادين العلم والتكنولوجيا صفوف ثقافة الإنتاج... لن تعود أعباء الخزينة كما هي عليه اليوم ولن يعود القطاع العام الي ما هو عليه اليوم ولن يستقيل القطاع الخاص من مهمته كما هو الحال اليوم. بعيدا عن الصناعة والزراعة ودخل قناة السويس وبعض الثروات الطبيعية وغيرها, فان قطاع السياحة في مصر كفيل وحده بتنمية الخزينة ان احسنت ادارته. يزور هولندا عشرات ملايين السياح لرؤية حدائق الورد. يتكبد الناس عناء السفر لأيام طوال الي المكسيك لرؤية اهرامات الازتك الصغيرة مقارنة بعجائب العالم السبع عندنا. يتجمعون حول قصر باكنجهام في لندن لرؤية الحرس يتبدل. مصر فيها اكثر من ثلثي آثار العالم. مصر في قلب العالم جغرافيا. مصر فيها الشواطئ. مصر فيها التاريخ والحضارة ولا تخلو اكثر الكتب مبيعا في العالم من الحديث عن مصر وسرها وسحرها... فلماذا لا تكون السياحة ثروة مصر ولماذا لا يدار قطاع السياحة بأرقي العقليات؟ بصراحة ما تريده مصر ليس نهجا سياسيا جديدا فحسب بل ثورة حقيقية في العقلية الادارية البيروقراطية وهي قادرة علي ذلك. وما نريده لمصر حقيقة ان تتغير نحو الأفضل اقتصاديا واجتماعيا كي تبقي الريادة في المكان الذي تستحقه. حمي الله مصر ورسخ سلامها كي تبقي آمنة وندخلها آمنين.