ما إن هاتفت الأديب "جمال الغيطانى" خلال شهر رمضان هذا العام لحديث مختصر عن "ألف ليلة وليلة" إلا وتدفق متكلما. ودار حوار بيننا على الهاتف لأكثر من ساعة كاملة. وشاء القدر ألا تجد كلمات هذا الحوار طريقها للنشر الى الآن. و كنت قد احتفظت بين أوراقى بكل كلمة قالها هذا الأديب المولع بألف ليلة وليلة، والذى تقاطعت حياته وإبداعاته معها فى غير مرحلة من حياته الحافلة. ولعل آخرها عودته الى استلهام هذا النص "العمدة" فى الأدب الشعبى عند كتابته أحدث أعماله بعنوان "الحكايات الهائمة". وعلى المستوى الشخصى كنت قد تعرفت على الأستاذ الغيطانى فى مطلع عقد الثمانينيات فى منزل الكاتب الصحفى الراحل الأستاذ "مصطفى طيبة"، والذى طالما كان يتردد عليه. ويقع فى حى العجوزة بجوار النيل و على مقربة من منزل أديبنا العالمى "نجيب محفوظ". وكانت ثمة كيمياء خاصة تجمع بين "الغيطانى"و"طيبة". وما أذكره أن الأول كان يقدر للثانى تجربته الطويلة فى السجن كسياسى ورواية وحيدة كتبها بعنوان "سيارة صفراء بدون أرقام"وكتاب يحمل اسم "رسائل سجين سياسى الى حبيبته"ينطوى على دفقة إنسانية لا تنسى. وهو الذى عانى جانبا من هذه الخبرة المؤلمة فى عام 1966. لكن "الغيطانى"كان وقتها قد بلغ شهرة الأدباء المبدعين وبخاصة مع "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"و"الزينى بركات". ولقد تذكر الغيطانى فى كلماته الأخيرة ل"الأهرام"سنوات الطفولة والصبا فى حى الجمالية فقال: كنت أستمع من راديو الجيران الى ألف ليلة وليلة الإذاعية فى قاهرة نهاية الخمسينيات وربما منذ عام 1958 تحديدا وأنا جالس على سلم البيت. وقتها لم تكن أسرتى تمتلك راديو وكنت أدرس فى المرحلة الاعدادية. حقا كان امتلاك راديو دليل وجاهة اجتماعية. ولقد أثار المسلسل خيالى. كنت قد قرأت جانبا من النص من قبل. لكن الإذاعة حملتنى الى مستوى آخر. وبلاشك فإن موسيقى المقدمة للروسى ريمسكى كورساكوف فتحت أمامى ابواب الموسيقى الكلاسيكية وادخلتنى إلى عالمها. وأظن أن الإذاعة لعبت دورا مهما فى ترقية الذوق الموسيقى على نحو لم يفعله التليفزيون. وإجمالا فإن البرامج الغنائية للإذاعة المصرية كانت حينها عالية المستوى جدا. وتعكس إخلاص القائمين عليها وارتفاع مستوى التقنية المستخدمة. وأضاف : "بعدها لم تجذب ألف ليلة وليلة فى التليفزيون اهتمامى بأى حال. شاهدت أكثر من مسلسل وسهرة تليفزيونية. لكنها لم تشد انتباهى. وطالما نظرت اليها باستغراب. وحقيقة إذا ما صادفتنى مسلسلات تليفزيونية مستلهمة من ألف ليلة فاننى انظر اليها باستغراب وكأنها شىء عابر. بل اعتقد أن المعالجات التليفزيونية الحالية لحكايات ألف ليلة متأثرة بالدراما التركية، وبما فى ذلك مسلسل حريم السلطان. وقال "حكايات ألف ليلة وليلة فى رأيى أعظم الأعمال الابداعية الجماعية التى أنتجتها الانسانية. لكننا للأسف نحتقرها لأنها بلا صاحب أو مؤلف محدد. ولولا الفرنسى (أنطوان جالان) وقيامه بتعريف الحياة الأدبية العالمية عليها بعدما اكتشفه لها فى القرن السابع عشر لما التفت إليها أحد. لكن هذا الحكايات بالأصل كانت متداولة فى مقاهى القاهرة كروايات شفهية وقبل قرون عديدة على ألسنة شعراء الربابة. وربما يعود الأمر الى القرن الرابع الهجرى مع سنوات الفاطميين، أو أبعد. فقد أشار المقريزى اليها عندما أرخ للقرن التاسع الميلادى . كما لا يخلو من ذكرها كتاب فهرست ابن النديم. وهو من أقدم كتب الببلوغرافيا العربية. وعندما سألت هل جاءت من آسيا وبلاد فارس قال بحسم:" ليس صحيحا. بل هى كتاب مصرى شامى. وكى يثير خيال المستمع اتخذ من بغداد مكانا لأحداث الحكايات .لكنى اعتقد أن المكان الحقيقى لها هو القاهرة. ولا علاقة لبغداد الحقيقية بألف ليلة وليلة. وهذا الرأى كتبته ثم عاد وأيدنى فيه علماء وباحثون لاحقا. ولقد استندت فى رأيى هذا الى طبيعة اللغة المستخدمة فى رواية الحكايات". لكنه أشار الى نص وصفه بأنه فرعى وليس أصليا وقال إنه "شامى من حلب". ويعود الغيطانى بالنص العربى المطبوع لألف ليلة وليلة الى مطبعتين وطبعتين . الأولى فى كلكتا بالهند عام 1832 بعد أن جمعها مستشرق بريطانى هو بالأصل ضابط جيش. والثانية من المطبعة الأميرية ببولاق القاهرة عام 1840. وقام بتحقيق هذه الطبعة المصرية الشيخ محمد قطة العدوي.وهو شيخ أزهرى حاصل على العالمية. ويخبرنا الأديب الكبير بأن الطبعات العديدة الصادرة من القاهرة وبيروت لاحقا ترجع الى هذين الطبعتين وأنه يرى أن هذه الطبعات تؤكد كما قال سابقا إن النص مكتوب بلغة قاهرية رغم ان وقائع الحكايات تجرى أساسا فى مدينة بغداد. وأضاف :" الطبعات العربية لألف ليلة وليلة مكتوبة أيضا بلغة قاهرية .وحتى الطبعات المنتشرة فى المغرب العربى جاءت من القاهرة وبيروت أصلا وبنفس اللغة القاهرية". وكان الغيطانى من موقع مؤسس ورئيس سلسلة الذخائر التراثية بهيئة قصور الثقافة قد أشرف على إعادة نشر طبعتى كلكتا وبولاق عامى 1996 و 2000 على التوالى. وصدرت الأولى فى ثمانية أجزاء إلا ان محامين متطرفين اعترضوا على اصدار هيئة تابعة لوزارة الثقافة لنص رأوا انه يحتوى على عبارات إباحية. لكنهم لم يتمكنوا أبدا من احداث ضجة مماثلة لما أحاط بالف ليلة وليلة فى عام 1986 حين صدر حكم قضائى ابتدائى بمصادرتها ومنع تداولها. وقال الغيطانى ل"الأهرام": "ألف ليلة وليلة نص مضطهد.. كان يقرؤه الآباء سرا فى بدايات القرن العشرين ويخفونه عن ابنائهم . هذا مع انه من أقل كتب التراث العربى احتفاء بالجنس .. ولنقارنه مثلا مع الأغانى لأبى الفرج الاصفهاني. وحتى عندما كان الشعراء والرواة الشعبيون يقصون هذه الحكايات كان هناك من ينظر اليهم والى الف ليلة وليلة باحتقار ولمجرد انها ابداع جماعى متوارث لم يكتبه شخص محدد واعتقد انه نتيجة القهر الذى مارسته الثقافة الرسمية على الكتاب فإن رواته من شعراء شعبيين لحق بهم هذا الاحتقار .ولذا ظل النص يعبر بشكل مهم عن المشاعر الانسانية أكثر من الادب الرسمى المعتمد ". وأضاف: "الطبعة الأولى (كلكتا) من الذخائر تعرضت لهجمات متطرفين من فوق منابر المساجد .. أما الثانية وبعد انتشار الإنترنت فعرفت هجوما أشد وتقديم محامين لبلاغ ضدها الى النائب العام". وقال :" سرعان ما تلاشت الضجة وبقى أن الطبعة الأولى من ألف ليلة وليلة فى سلسلة الذخائر نفدت خلال ثلاثة ايام فقط ورغم أن المطبوع كان خمسة آلاف نسخة فيما عناوين هذه السلسة كانت تطبع ثلاثة آلاف نسخة فقط . أما الطبعة الثانية(بولاق) فقد صدرت فى نسخ مماثلة (5 آلاف). وما اتذكره جيدا انها نفدت بدورها فى نحو أسبوعين ليس إلا". وعندما سألت أديبنا الكبير عن نصوص "الحكايات الهائمة"قال: "أنا أقوم هنا بلعبة مع ألف ليلة وليلة. حقيقة لا استطيع أن أبدع عملا مثلها. لكن لدى طموح. ولو سألتنى ما هو العمل الذى تريد ان تكتب مثله سأقول بلا تردد : ألف ليلة وليلة ". وقبل أن ينتهى الحوار شدد الغيطانى على أن ألف ليلة وليلة نص لم يأخذ حقه من الاهتمام الكافى بعد وتمنى أن يحظى بمعالجة أكبر.