هل يمكن أن يعيش إنسان حياته دون أن يخرج من بيته؟ لا تتسرع في الإجابة، انظر حولك، تمعن في كل ما يحيط بك، أسأل نفسك عن كل شيء تفعله أو تحلم به أو تتمناه، ثم أجب. ولنبدأ بسؤال ساذج: هل نحن نعيش في عالم واحد؟ قولًا واحدًا نحن نعيش في عالمين، عالم واقعي و عالم افتراضي ، عالم فيه أفعالنا مادية ملموسة، وعالم فيه أفعالنا كأننا نفعلها، عالم محسوس وعالم رمزي، عالم حقائق مجردة وعالم رقمي نراه ولا نلمسه. وبالطبع يوجد جسر بين العالمين، نعبر بينهما وقتما نريد. وحكاية الإنسان الذي عاش وحيدًا دون أن يخرج من بيته حدثت فعلًا، تسوق ولعب وأحب وتحدث ورقص مع أخريات وحضر أوبرا، واسمه «توم چاي»، وهو شاب أمريكي كان مدير أنظمة كمبيوتر، وتعاقد معه مركز متخصص في شبكات المعلومات في بداية الألفية الجديدة، على أن يدخل في أول يناير إلى منزل فارغ تمامًا بمدينة دالاس بولاية تكساس، إلا من جهاز كمبيوتر متصل بشبكة الإنترنت وتليفون محمول وبطاقة ائتمان مفتوحة، ولا يغادره إلا بعد منتصف ليل 31 ديسمبر، وفعلها فعلا وبسهولة شديدة، فشبكة النت و شبكات التواصل الاجتماعي نقلتا العالم الخارجي إلى داخل البيت، تسوق ما يريد، وشاهد أفلام سينما ومسرحيات، وتحدث مع أصدقائه، وتعرف على أناس جدد وتودد إلى فتيات في سان فرانسيسكو وهونج كونج وسيدني، ورقص مع بعضهن بنظارة الواقع الافتراضي وأنجز بعض الأعمال على الماشي.. إلخ. ولو أراد أن ينجب لفعل، بأن يستدعي متخصصين من مستشفى خصوبة له سمعة عالمية يأخذون بعضًا من حيواناته المنوية ويلقحون بها بويضة مؤجرة في رحم مؤجر. ولهذا السبب التهمت كتاب الأستاذ أكرم القصاص الجديد (السيبراني..اضغط هنا) منذ وقع في يدي، الشغف يلعب في عقلي مثل فأر محترق في فضاء لا نهائي: ماذا حدث بعد عشرين سنة من تجربة «توم چاي»؟، وقتها لم يكن العالم يعرف سوى موقعين فقط للتواصل الاجتماعي هما: شبكة «ست درجات»، أسستها شركة أندرو فاينرايش الأمريكية عام 1997، وكان عدد الأعضاء المسجلين فيها ثلاثة ملايين ونصف مليون عضو، حين بيعت عام 2000، لكنها توقفت وبعد فترة عادت للعمل. وشبكة لايف چورنال وأسسها طالب ثانوي اسمه براد فيتزباتريك في عام 1999 لأنشطة الطلاب. فما بالك بعد أن تكاثرت هذه الشبكات وانضم إليها أكثر من نصف سكان المعمورة لا يكفون عن الكلام عليها لحظة واحدة!. ميزة الأستاذ أكرم أنه يكتب بسخرية لاذعة تهدف إلى التأمل، والكتاب الساخرون لا يشغلون بالهم «بمنهاج علمي صارم» في عرض أفكارهم، يبدأ من تعريف المصطلحات، وكيف تطورت المفاهيم، وما هي الإحصاءات التي تكشف مدى تغلغل هذه الشبكات في حياتنا..إلخ، فهم مهمومون بتدفق سيل العبارات المعبرة عن إحساسهم بالموضوع دون أي حشو معطل، فالشحنة الساخرة لا يجوز لها أن تتوقف في إشارات أكاديمية حمراء، تبرد المشاعر وتبث الزهق، حتى لو كانت تحمي الإنسان من حوادث الأفكار المتسرعة، فالمهم للكاتب الساخر أن تستقر الفكرة في عقل قارئها مكتملة عبر مشاعره أولا مصحوبة بابتسامة عريضة ورد فعل تلقائي: يخرب مطنك يا شيخ موتني من الضحك. وأول ما رصده أكرم القصاص في سكان شبكات التواصل الاجتماعي هذا التنوع الهائل: الطيب والشرير، الهادئ والصاخب، العارف والجاهل، المدعي والحقيقي، الشريف والنصاب، المتعجرف والمتواضع، العنصري والمعتدل، المسالم والشرير، وكل هؤلاء لا يمكن نزع وجهه المزيف من أول نظرة، ففي عالم الأقنعة هناك جبناء يتحدثون عن الشجاعة، ومتوحشون يتحدثون عن الطيبة، وسفلة يتحدثون عن النبل، وبنات ليل يتحدثن عن الفضيلة. ويضع أكرم يده على الشخصيات الغالبة الأكثر تأثيرًا في الفيسبوك، أشهر شبكات التواصل الاجتماعي ، وهم « الزياطون »، والزياط تعبير دارج في الثقافة الشعبية، لكنه فصيح الأصل، ومعناه صانع الضجة والجلبة، و الزياطون يبالغون في الانفعالات، يؤيدون الرأي ونقيضه، يصدقون الشائعات ويشتمونها، يمارسون النميمة ويلعنونها، وأهم ميزة فيهم هي قابليتهم أن يتحولوا إلى دولارات في جيوب أصحاب المواقع ومنصات التواصل، وكلما زادت أعدادهم تضخمت الجيوب بالمليارات. وشيء عادي جدًا أن كل من يدخل هذا العالم الافتراضي لاعبًا أساسيًا فيه سواء باسمه الصريح أو باسم نجم مشهور أو بصفة تستهويه، عليه أن يقدم استقالة من نفسه الحقيقية، ويصبح واحدًا من أهل البيت الرقمي، يقرأ مثلهم ويسمع ويرى ويتحدث ويحكي ويتفرج على حكماء وتافهين ويصدقهم، ويتابع خبراء في السياسة والحروب والطبيخ وبلهاء لا يفكون الخط، وحكماء في الكرة ونط الحبل، ويدون نصائح أطباء بلا طب ويبلع قليلًا من اللحم وسط أكوام من القش. والقش أيضا يحيط بحسابات وصفحات لا حصر لها على تلك الشبكات، فكما تخصصت مكاتب ومؤسسات في تسويق الشخصيات العامة للجمهور في الواقع، أصبح لها نظير في العالم الافتراضي، تصنع متابعين وهميين بالملايين لمن يطلب خدماتها، وحين أجرت بعض الشبكات تنظيمًا للحسابات عليها مشاهير كثر مئات الآلاف من المتابعين، كالرئيس الأمريكي ترامب الذي فقد 300 ألف متابع، وكأمير قطر تميم بن حمد الذي هبط متابعو حسابه من 2٫6 مليون إلى 232 ألفا فقط. لا تبدو الظواهر والأفعال في شبكات التواصل الاجتماعي على حقيقتها، لا البرد برد ولا الحر حر ولا الإعصار إعصار، شيء ما يتدخل ويعيد هيكلتها بما يلائم العالم الافتراضي، لا مفر من التهويل غالبًا والتهوين أحيانًا، الحر موت لم نره من قبل، البرد أبرد سنوات القرن، مثلا في الأسبوع الأخير من أكتوبر الماضي انقلب الطقس، وسقطت أمطار غزيرة على مصر كما أعلنت هيئة الأرصاد قبلها، فإذا بخبراء الفيسبوك يحذرون من إعصار سوف يضرب الإسكندرية وأجزاء من فلسطين نسبوه إلى وكالة الفضاء الأمريكية، أعقبه بوستات وفيديوهات عن هجوم فضائي، وسارعت هيئة الأرصاد بتكذيب هذه الأخبار، لأن البحار المغلقة مثل البحر المتوسط لا تعرف الأعاصير.. لكن لا حياة لمن تنادي، فالأكاذيب الافتراضية لها طلاوة لا يتمتع بها الصدق.