"يا أفندينا.. لقد رأيت رؤيا أريد أن أقصها عليكم، لقد حلمت بأنكم أصبحت ملكاً لمصر وجميع الأمراء يقبلون أياديكم وينحنيون أمامكم". هذا هو الحلم الذي خلد صاحبه إلي وقتنا.. حلم حول صاحبه من شخصية مغمورة إلي مشهورة.. حلم نقله من الأرض إلي السماء.. ليس هذا فحسب بل إنه حلم غير من مجري التاريخ وكتب علي صاحبه أن يكون أحد صناعه. حلم قاد صاحبه ليكون صاحب أغرب جنيه مصري في التاريخ لعام 1924، الجنيه الذي آثار العديد من التساؤلات، وخلد صاحبه واسمه وحكايته ليذكرها التاريخ المصري الحديث. إنها حكاية إدريس خادم الملك فؤاد منذ أن كان طفلا إلي أن اصبح ملكا، إدريس الفلاح المصري صاحب البشرة السمراء ولحية يخالطها الشيبة وعمامته الجنوبية صاحب الحلم الذي نقله لسيده ليبشره بالعرش بعد أن ضاع منه. ترجع بداية الحكاية إلي أنه ذات يوم استيقظ إدريس الأقصري خادم الملك فؤاد علي حلم خاص بسيده الذي سبق ذكره وقصه عليه، مما أثار انتباه فؤاد لهذه الكلمات المستحيلة من وجهه نظره في ذلك الوقت، ورد عليه: "لقد كبرت وخرفت يا إدريس". فقد كان تحقيق هذا الحلم من المستحيلات وقتها، ولكن كان كل مايشغل بال فؤاد كيف يتسلل من السفينة إلى مدينة الإسكندرية دون أن يعلم أحد بأنه كان يسافر في أدنى درجة بالسفينة دون جناح خاص يليق به كأمير من أسرة "محمد على" وأخ لسلطان مصر. فقد كان فؤاد عائدا إلي مصر هاربا من روما من ديون القمار والراقصات التي كتب لهن شيكات بدون رصيد ومن قروض محلات الرهونات، وكان قد قضى عشرين عاماً في روما متسكعاً حتى وصل إلى الإفلاس ولم يبق له إلى أن يعود للقاهرة ليختفي فى صمت حتى لا يعلم أصحاب الديون في إيطاليا بوصوله، وكان معه خادمه إدريس الذي لم يتخل عنه بعد أن هجره الجميع. ورغم المخاوف التي تشغل باله من عودته إلا أن حلم خادمه إدريس كان يوقظ داخله أمنية ربما تكون الإنقاذ الوحيد من ورطته ومهانته، رغم استحالتها فقد كان لايزال السلطان حسين كامل موجودا علي عرش مصر إضافة إلي ولي العهد كمال الدين، وحتى لو لم يورث هناك أيضا في أسرة محمد على من هم أكبر منه سناً وأكثر نفوذاً، كما أنه يشعر دائماً بالغربة في البلد الذي لا يجيد لغة أهلها، ولولا الديون التي تطارده لكان قد قضى كل حياته خارج مصر. حاول فؤاد أن يطرد كل مخاوفه وأفكاره وحلم خادمه من رأسه، وبدأ يستعد للنزول من السفينة وما إن خرج من الميناء حتى كانت المفاجأة الأولى، فبائع الصحف يصيح: " اقرأ المقطم ...اقرأ آخر خبر الأمير كمال الدين حسين يتنازل عن العرش"، وتوقف الأمير فؤاد وتابعه إدريس ونظر كل منهما إلى الآخر مذهولاً. واشترى فؤاد الجريدة وطلب من إدريس أن يقرأها له ليؤكد له صحة الخبر وأن الأمير كمال الدين الرافض للعرش سافر خارج مصر مع زوجته بعد أن أعلن أنه مسلم ولكن لا وطن له. أضاف أن هناك خبرا آخر فالأمير عبد المنعم أكبر أمراء أسرة محمد على سافر لإنجلتر، وهنا قال فؤاد: "لقد ذهب ليطالب بحقه في العرش، وبقى الأمر مجرد حلم لفؤاد". وظل فؤاد حبيسا في كآبته لا يقدر على التجول أو الذهاب إلى أي مكان فلم يكن أحد من أسرة محمد على يرغب في رؤيته فالجميع يعلم أنه سيأتي لطلب المال، ولكن فؤاد لم يكن يعلم ما يجرى في الخفاء فطلب الأمير عبد المنعم قوبل بالرفض من قبل الإنجليز، فهم يريدون أميرا ضعيفا يجلس على عرش مصر ليسهل التحكم فيه. وظل هكذا إلي أن وصلته دعوة من المندوب السامي مستر "وينجت"، الحاكم الفعلي لمصر، الذي أكد له أن حكومة صاحب الجلالة اختارته ليكون ملكاً على مصر، وشدد علي ألا يعلن هذا الأمر حتى يموت السلطان، وكان عليه فقط أن يلتزم بالأوامر التي ستوجه له. انصرف بعد ذلك الأمير الذي أصبح ملكاً وهو مذهول، لدرجة أن المنتظرين بالخارج فى قاعة "وينجت" ظنوا أنه تلقى توبيخاً شديداً من المندوب السامي، وعاد فؤاد إلى بيته ووجد إدريس يصلى صلاة الظهر، وظل واقفاً حتى فرغ من صلاته، ثم صاح "انهض يا إدريس بك"، وظل إدريس مذهولاً، وعاد فؤاد يقول: " لقد تحقق حلمك الغريب وسأضع صورتك على أول جنيه تصدره حكومتي". فى يوم 4 يوليو 1926 صدر أول جنيه مصري عن الدولة المصرية المستقلة شكلياً وهو يحمل صورة "إدريس بك الأقصرى"، والذي شهده كل المصريين بمنتهي الدهشة دون أن يعرف أحد أي شىء عن هذا الشخص صاحب الصورة، أهو رمز للفلاح المصري أم ماذا؟ فقد كان معروفا أنه توضع علي الجنيه المصري صورة السلطان العثماني الذي ظلت مصر ولاية تابعة له لفترة طويلة، حيث كان يحكم البلاد في هذا التاريخ الملك الجديد فؤاد الأول. وبهذه الطريقة يخلد إدريس حكايته وحلمه.. ليحكي التاريخ عنه وعن رؤيه هذا الخادم الأمين لصاحبه.. والذي ظل معه وقت أن تخلي عنه الجميع، ليظل يحكي التاريخ.. حكايته مع الجنيه.