كل العالم منذ آلاف السنين يضع مصر فى مكانتها ويقدر أدوارها وكانت دائماً شريكاً مهما فى صنع الأحداث ولم تكن يوماً على هامش الزمن ولسنا فى حاجة أن نرصد مراحل التاريخ وأين كانت مصر الدور والمسئولية والرسالة.. هذا حديث يطول.. وإذا توقفنا عند الجغرافيا فلا توجد دولة فى العالم يمكن أن تشبه مصر الموقع والشواطئ والجغرافيا والعمق التاريخى.. فى مصر تجمع التاريخ مع الجغرافيا مع البشر فى ثلاثية لا شبيه لها فى هذا الكون وحين تطل على خريطة الكون تجدها فى قلب العالم كنقطة مضيئة تحيطها البحار على امتداد يزيد على 2000 كيلو متر مربع وتجد نيلا يجرى شامخاً منذ آلاف السنين وتجد عشرات البحيرات التى تتناثر كقطع من الضوء فى كل مكان.. كنت دائما ومازلت أعتقد أن مصر وطن لا شبيه له وأن الله تعالى قد منحنا وطنا مختلفاً فى كل شيء وأن العالم يحسدنا على هذا المكان وهذه النافذة التى تطل على كل قارات الدنيا بحاراً وسماء وحضارة ودوراً.. وأننا آخر من يقدر قيمة هذا الوطن.. هذه مقدمة حاولت اختصارها لأنها حديث كما قلت يطول ولكن هناك سؤالا يتردد من وقت لآخر كلما اقتربت سحابات أو أزمات أو فترات تراجع فى دور مصر وكنت دائما أؤكد أن دور مصر غير قابل للتوريث سواء من محيطنا العربى أو المدى الإفريقى أو حتى على مستوى العالم لان هناك مصر واحدة بدورها ومسئوليتها وتاريخها وأزماتها ولا اعتقد أن هناك من يملك عقلا ويفكر للحظة فى انه قادر على أن يملأ أى فراغ يتركه غياب مصر لأن مصر كانت دائما فى الصدارة وحين يخبو الضوء قليلا سرعان ما يشرق الصبح وتنشر الشمس أشعتها على شواطئ نيلها الخالد.. فى الأيام الأخيرة طرح البعض هذا السؤال من يقود العالم العربى وما هى الدول المؤهلة لهذا الدور وما هى أسباب هذا الطرح فى هذا التوقيت وكيف نطرح هذا السؤال ونحن أمام كارثة تعانى أوطاننا انهيارات وصلت بها إلى حالة دمار شامل أمنا واستقرارا وبشرا وتاريخا.. إن الحديث الآن أو السؤال من يقود الأمة يجب أن يسبقه سؤال أهم وأين هذه الأمة؟!.. إن الطامعين أو الواهمين بأن يرثوا الدور المصرى عليهم أن يسألوا أنفسهم ما هو الدور المصرى الذى يطمع فيه الآخرون.. هل هو التاريخ إن الشيء المؤكد أن التاريخ انجاز تراكمى عبر آلاف السنين ولا تستطيع دولة أن تصنع تاريخا وتزور أحداث الزمن هناك دول عظمى بلا تاريخ ولم تفكر فى أن تغالط ثوابت الحضارة وتقرر أن تشترى تاريخا أن من يشترى آثاراً ويقيم لها متحفاً لا يصنع تاريخا ولن يضيف لتاريخه شيئا إنها عمليات تزييف وتضليل وسرقة وهناك دول أقامت معارض لتراث الآخرين ولكنها لم تصنع تاريخا وهذا هو حال مصر فيها ثلث آثار العالم ولم يدع أحد انه وريث فى هذا التراث إن أمريكا وهى دولة عظمى بلا تاريخ وكل ما لديها آثار مائتى عام هو تاريخ أمريكا كله.. وهناك دول أخرى بلا تاريخ والشيء المؤكد أنه لا يوجد ميراث يباع اسمه التاريخ وأن بيتا من زجاج عمره شهور يختلف عن قصر عمره مئات السنين وهذا يعنى أن تاريخ مصر غير قابل للبيع أو التزييف أو التوريث.. من يستطيع أن ينافس مصر كلها فى مكانها وشواطئها ونيلها، إن جغرافيا مصر لا يشبهها مكان آخر فى هذا العالم وحاول أن تقرأ خرائط الدنيا ولن تجد شبيها لمصر فى أى قارة من القارات هناك دول أكبر وحدود أوسع ولكن لن تجد غير مصر واحدة على خرائط الدنيا.. وحتى النيل الذى ينازعنا البعض عليه الآن لا يصلح لمكان آخر غير مصر.. إن فى مصر شعبا مبدعا وهو لم يكن على هامش الأحداث والزمن ربما عبرت عليه سحابات من اليأس والظلم والتراجع ولكنه سرعان ما قام وتخلص من قيوده وعاد ينجز ويبنى والتاريخ المصرى بكل مراحله فترات صعود وأيام انكسار ولكنه قادر دائما أن يتجاوز ساعات ضعفه واستكانته وهو قد يعانى أحياناً ولكنه لا يسقط مستسلماً أمام معاناته.. الإنسان المصرى لديه الكثير من الصبر ولكنه إذا قام غير خريطة الزمن والأشياء.. هذه الثلاثية فى مصر لا يمكن أن تورث التاريخ والجغرافيا والبشر لأنها إرادة إلهية ولهذا يرى البعض أن دور مصر السياسى أو الثقافى أو الحضارى يمكن أن يشهد فترات أو مراحل من التراجع وتستند هذه الآراء إلى بعض الظواهر السلبية فى حياة المصريين.. إن عقل مصر لم يعد فى إبداعه وقدراته وخصوبته وان تراجع دور مصر الثقافى حقيقة لا يمكن تجاهلها أمام ظواهر جديدة من الفنون الهابطة والثقافة السطحية وان مصر لم تعد كما كانت مصدر إشعاع وفكر وإبداع وان هذا التراجع يغرى البعض بأن هناك فراغا أمام غياب الدور المصرى.. وربما شجع ذلك على ظهور بدائل ثقافية قد لا تكون فى ضخامة الدور المصرى ولكنها تملأ شيئا من هذا الفراغ.. ولا تملك أكثر من ذلك.. لا يستطيع أحد أن ينكر أن المال أفسد الإبداع المصرى حين تحول إلى سلعة لمن يريد وان مصر خسرت الكثير من أجيالها الواعدة أمام فنون هابطة وأفكار مريضة وان الجرى وراء المال أصبح وسيلة لتقديم إبداع سييء وفنون مشوهة.. هناك حالة ارتباك أصابت الفكر المصرى فى معارك وهمية حول قضايا كثيرة وضعت النخبة المصرية فى حالة من الغموض وغياب الرؤى ومن يتابع ما يجرى فى ساحات الفكر فلن يجد تلك القامات الفكرية التى تهز الثقافة العربية بأفكارها ومواقفها كانت مصر أهم مراكز الفكر فى الثقافة العربية واهم مراكز الدين فى العالم الإسلامى واهم مراكز الإبداع فناً وأدباً وشعراً فى العالم العربى وكان العالم يسمع ما تغنى القاهرة ويناقش ما تطرح من الأفكار والقضايا.. وللأسف أصبحنا مستهلكين لما يرد إلينا من خارج حدودنا.. وجدنا فنونا أخرى.. ودينا آخر وسلوكيات مختلفة وبعد أن كنا مصدر الهام وإبداع للآخرين أصبحنا ضحايا فى أسواق فكر مريض وإبداع متخلف.. قد يتحدث البعض فى هذه القضية عن دور مصر السياسى ولا شك أن مصر لم يتراجع دورها السياسى عربيا ولكن نحن أمام امة تفككت ماذا تفعل مصر أمام واقع سياسى تشوهت كل ملامحه وثوابته أن نصف العالم العربى وقع فريسة بين الاحتلال الأجنبى والحروب الأهلية والنظم القمعية.. ماذا تفعل مصر أمام هذا الانهيار الذى أصاب كل مكونات هذه الأمة بعد أن سقطت اكبر الأعمدة فيها، أين العراق الدور والثقافة والقوة، وأين سوريا النخبة والفكر، وأين لبنان النافذة المضيئة دائما وأين اليمن الذى كان سعيداً وأين ليبيا بشعبها وثرواتها؟ كل هذه القلاع تهاوت سياسياً واقتصادياً وتبعثرت بين احتلال أجنبى وأطماع تحاصر شعوبها.. إن البعض الذى يتحدث عن قيادة لهذه الأمة ينسى كل شيء فيها تهاوى فى لحظة تاريخية رهيبة.. ماذا نعلم عن حشود المواطنين الذين هربوا من بلادهم وفيهم آلاف المبدعين والعلماء وأين يعيشون الآن وقد دمرت الحروب الأهلية والاحتلال كل مقومات هذه الأوطان فكراً وأرضا ودينا وأمنا.. ما هو مصير هذه الأجيال ومنهم ملايين الأطفال الذين يتم الآن استنساخهم ليكونوا نسخة أخرى لا يحملون ملامح أوطانهم.. أين أموال هذه الدول وثرواتها والملايين الذين هربوا من الموت أرضا إلى الموت بحراً.. نحن أمام قضايا كثيرة لأنها تتعلق بالوجود فنحن أمام امة تخرج من التاريخ وتتسرب فى سراديب مجتمعات وشعوب وثقافات وديانات أخرى.. إن السؤال الذى يستحق الإجابة ليس من يرث دور مصر ولكن من يعيد روح الأمة وهى تختنق تحت ركام من الحروب والدمار وطغيان الآخرين.. من يعيد للعواصم المحترقة آثارها وأمجادها وذكريات شعوبها أين بغداد الثقافة وأين دمشق الإبداع وأين لبنان الدور وأين اليمن بعبق التاريخ فيه وأين ليبيا التى كانت أين كل هذه القلاع من الفكر و الإبداع والثقافة ؟!.. إن الحديث الآن لا ينبغى أن يكون عن توريث الأدوار لأن هنا تاريخا لا يورث وشعوبا لا تورث وأماكن لا تباع إن آثار هذه الدول توارت وأصبحت أنقاضا ترى من يعيدها مرة أخرى.. من يعيد آثار بغداد ومساجد دمشق وقلاع اليمن وليبيا ومن يعيد لهذه الشعوب روح الوطن ومسئولية الأمن والسلام.. كما قلت ليست القضية من يرث دوراً سياسياً أو ثقافياً ولكن الأمة كل الأمة تعيش محنة قاسية من التفكك والانهيار وكانت الكارثة الكبرى هى انهيار كل مصادر القوة فى هذه الدول ما بين اقتصاد نهبته أيدى الاحتلال ومنشآت دمرتها الحروب الأهلية وشعوب تبحث عن وطن بديل.. القضية لم تعد أدواراً تبحث عن ورثة ولكنها أمة تبحث عن مصير.. ويبقى الشعر نِيلٌ لأيَّ زمَانٍ صرْتَ يَا نِيلُ هلْ كلُّ لغو لديكَ الآنَ تنزيلُ ؟ هلْ كلُ زيفٍ تَراهُ الآنَ معجزةً هلْ كلُ سُمَّ على كفيكَ تقبيلُ ؟ هلْ كلُ فجْرٍ على الأشْهادِ تَصلبهُ هلْ كلُ نارٍ على عَينيْك قَنِديِلُ؟ هلْ كلُ من شَيدَ الأصْنامَ تعبدهُ أمْ كلُّ مَنْ بهْرجَ الكلماتِ جبريلُ؟ أيْنَ الشَّموخ الذى أصْبَحتَ تجهلهُ السَّيْفُ ماتَ ..فأغرتنَا الأقاويلُ عِشْنا مَع الحُبَّ أطْفالاً تُدللنَا تنسَابُ شوْقاً ..وبعْضُ الشَّوقِ تدلِيل كُنتَ الحَبيبَ الذِى دَاوَى مَوَاجِعنَا أيْنَ الهَوى والمُنَى ..أين اَلمَواوِيلُ؟ قدْ كُنتَ يَا نيلُ خَمراً لاَ نُحرَّمُها أصْبحْتَ سُمّا.. فهلْ للِقتل تَحليلُ؟ قَدْ شَوهُوا الصبحَ فيِ عَينيْكَ مِنْ زَمَنٍ فَالطين مِسكُ..وخِزْيُ العَارِ إكْليلُ كَمْ مَاتَ صَوْتى. فَهلْ أدْمنتَ مَقتلنَا هلْ كُلُّ قوْلٍ وإنْ يَخْدعْكَ إنجيلُ؟ الصَوتُ صَوْتى ..تُراكَ الآنَ تُنكِرُهُ أمْ ضَاعَ صَوْتَى لأنَّ العُرسَ تَطبِيلُ؟ قَالُوا لنَا منْ يَذوقُ النَّهرَ يذكُرُه الناسُ تنْسَى ..فبعْضُ العِشقِ تَذليلُ كُنتَ الشُموخَ الذِى لاَ شَيْء يَرهبُهُ فَالماءُ وَحْيٌ..وصَوتُ الطَّيْر تَرتيلُ كُنتَ المَلِيكَ الذِى يأتيِ ونَحملُهُ فالزَّهرُ يَشْدُو وهمْسُ الكَونِ تَبجيلُ ُ وَجهيِ الذِى لم يَعدْ وَجْهى..أطارِدُهُ فى كُل شْيءٍ..فيبدُوا فِيك يَا نِيلُ فيِ الطَّين ألقاهُ حِينًا..ثُم أحْملُه مَزقتَ وَجْهِى..ومَا للوجهِ تبديلُ وَجْهى الذى ضَاعَ فى عَينيكَ مِنْ زَمَنٍ يَجفُو قَليلاً .وتُنسيهِ التَّعَاليِلُ ضَيعْتَ وَجْهاً جَميلاً عِشتُ أعْشَقهُ مَا أسْوَأ العُمْرَ لوْ سادتْ تماثيلُ غَيرتَ لَونِى الذى مَا زلْتُ أذكرُهُ أصبْحتُ مَسْخًا..وَمَا للَّونِ تَعديلُ فيِ كُلَّ شيءٍ نرَاكَ الآنَ تَسرقُِنا فَالحُلمُ دَينٌ..وكُل العُمرِ تأجيلُ أرْضَعتَنَا الحُزْنَ فى الأرْحامِ نَشْربُهُ صِرنَا دُمُوعًا..وملَّتنَا المَوَاويلُ مَا زالَ يَا نيلُ عِشقَى فيكَ يَهزِمنِي والعِشقُ كَالداءِ..لا يَشفيِهِ تأمِيلُ يَكفيكَ يَا نِيلُ مَا قدْ ضَاعَ مِنْ زَمَنٍ لَنْ يَنفَعَ القُبحَ مَهمَا طالَ تَجمِيلُ إنْ صَارتِ الأرضُ أقزَامًا تُضللنَا لنْ يْرفعَ القَزْمَ فَوقَ الأرضِ تَهْليلُ أحْلامُنَا لَمْ تَزلْ فى الطينِ نَغرِسُهَا إنْ يَرْحلِ العُمرُ..مَا للِحُلمِ تَرحِيلُ مَا زالتِ الأسْدُ خَلفَ النهْرِ تَسألهُ هَلْ يُنجبُ الطُّهر إفكٌ..أو أبَاطِيلُ؟ فلتُغرقِ الأرضَ نوراً كيْ تُطهرها مَا أثْقلَ العُمرَ..سَجَّانُ..وتَنكِيلُ أطلِقْ أسودَ الوَغَى للنَّهرِ تَحْرُسُهُ لَنْ يَحرُسَ النْهرَ بَعدَ اليوْمِ تَضْليلُ لنْ يَقتُلوا الشَّمسَ مَهْمَا غَابَ مَوْعِدُهَا إنْ مَزقُوا الشَّمْسَ..لَنْ تَخبُوا القناديلُ مَا زِلتَ فيِ العَيْن ضوءاً لا يُفارِقنَا فالُكلُّ يَمْضى..وتبقَى أنتَ يَا نِيلُ قصيدة وتبقى أنت.. يا نيل سنة1990 نقلا عن صحيفة الأهرام