من بين الجموع الثائرة وقع الاختيار على "صبي من الرعاع" -ذلك اللقب الذي وصفت به الصحف الإنجليزية، الثائرين من الشعب المصري- يرتدي جلابيته على اللحم، ويسير حافيًا رغم أن مهنة أبيه هي صنع القبابيب، وكان الولد الوحيد لأبويه، لم يبلغ من العمر أكثر من 14 عامًا، تجمع نظرته بين الخوف والفرعنة، والذل وحب المعابثة، تم انتزاعه من براثن وحوش مفترسة إلى هوة فارغة. وفي 9 مارس من عام 1919، انطلقت الثورة بمظاهرات ضخمة وإضرابات عن العمل شارك فيها كافة طوائف الشعب، فهي ثورة شعبية بامتياز احتجاجًا على سياسيات المستعمر الإنجليزي ضد مصر، والمميز أنه لم يكن حراكًا طائفيًا فلا تقوده النخبة أو العمال أو الفلاحون، فبدأ يدرك الوعي الجمعي وقتها معني كلمة "الشعب" ككتلة متحدة ومتسقة مع مطالبها وكتبعة من تبعات الثورة بدأ يتساقط الشهداء وأشهرهم هو ذلك الصبي مجهول الاسم الذي أعده الثوار بطلاً من أبطال الثورة، ورمزًا لها، حتي إن الأديب يحيى حقي، دعا إلي نصب تذكاري على هيئة صبي يرتدي جلابية ويرفع يده حاملًا "قبقابًا" تخليدًا لذكرى الصبي الشهيد. وقص علينا الأديب المصري يحيى حقي، في كتابه "صفحات من تاريخ مصر" قصة شهيد ثورة 19 الأشهر الذي لا يعرف أحد حتي اليوم أين تم دفنه، فلا يوجد إحصاء لشهداء تلك الثورة، لكنه قصها كما عايشها هو فقد كان يعرف هذا الصبي حيث كان دكان والد الصبي قريب من منزل حقي، ذلك الدكان الصغير الذي يعد مصنع قباقيب الحي، وفي ظل أجواء استوجبت ظهور بطل للثورة أصاب رصاص الإنجليز هذا الصبي تحديدًا ليصبح رمزًا للثورة وللبطولة، فهو واحد من عامة الشعب الذي تحول إلى بطل قومي شارك الآلاف في تشييع جثمانه من جميع الطوائف، سواء كانوا مستشارين أو قضاة ومحامين أو فلاحين وعمالاً أو طلبة وتلاميذ مدارس، في رسالة واضحة للإنجليز. وكان هناك غضب شعبي جراء وصف الصحف الأوروبية والإنجليزية للشعب بالغوغاء والرعاع وسرى شعور عام بضرورة ظهور بطل من قلب الشعب أو "جثة شهيد تخرج من صفوف الشعب" وبدا أن ظهور هذا البطل هو الذي سيرد تلك الصفعة التي شعر بها الثائرون آنذاك، وفي أثناء تلك الحالة من الغضب المتقد والانتظار انطلق هذا الصبي من أمام دكانه في إحدى المظاهرات، يردد هتافاتها فأصابه رصاص الإنجليز ومات على أثرها، لتخرج الجنازة الأشهر في تاريخ ثورة 19، والتي عرفت بجنازة "ابن القباقيبي".