من الصعب التعاطف مع نظام أردوغان في تركيا؛ لأنه ببساطة معاد لمصر منذ ثورة 30 يونيو حتى الآن، ولا يدع هذا النظام أي فرصة لتهديد مصر ومحاولة محاصرتها سياسيًا واقتصاديًا.. أردوغان يتلقى تهديدات يومية من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خلفية قضية احتجاز القس الأمريكي أندرو برانسون، وتبدو المسألة كأنها أزمة شخصية بين رئيسين (أردوغان وترامب) لهما صفة واحدة هي الجنون المطبق، وبالتالي عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات أي منهما في أي أزمة.. فهما يندفعان إلى الأمام، وقد يعودان متراجعين وكأن شيئًا لم يكن.. إسرائيل احتجزت سفينة تركية في طريقها إلى قطاع غزة وثار أردوغان، ثم أعاد العلاقات بعد فترة.. أردوغان رفض الاعتذار لروسيا بعد إسقاط مقاتلة لها في شمال سوريا، ثم عاد واعتذر، وبات حليفًا إستراتيجيًا لموسكو.. وترامب يهاجم إيران، ثم يطلب التفاوض في نفس الأسبوع بعدما جاءه رد موجع من طهران.. كما هدد كوريا الشمالية، وبعد أن حصل على رفات جنود أمريكيين من قتلى الحرب الكورية في الخمسينيات عاد وتحدث عن أن قضية نزع سلاح كوريا الشمالية طويلة وممتدة.. هذه ليست السياسة، وهذان ليسا سياسيين، هما بطلا استعراض إعلامي من الطراز الأول، ولو ينصف كل منهما نفسه لعمل في العمل الذي يجيده بالاستعانة بقرض من البنك الأهلي في مصر.. أما زعيم دولة فالأمر يختلف.. إن ثورة الاتصالات أنتجت في موجاتها الكاسحة وسائط ووسائل جعلت شعوب العالم تتخلي عن المواصفات التقليدية للقادة والزعماء لمصلحة مدعي زعامة يجيدون اللعب على الحساسيات والرغبات الدنيا لشعوبهم.. أما القس برانسون من ولاية نورث كارولينا فهو يعيش في تركيا منذ نحو 20 عامًا، ويشغل منصب راعي كنيسة القيامة البروتستانتية في أزمير، وقبل عامين فقط احتجزته سلطات أنقرة هو وزوجته بتهمة التجسس والاتصال ومساعدة جماعة فتح الله جولن، التي يتهمها أردوغان بالمسئولية عن الانقلاب الفاشل ضده، ودعم مسلحي حزب العمال الكردستاني. ومنذ اعتقاله وتحاول واشنطن الإفراج عنه بكل السبل؛ كمبادلته مع مواطنة تركية محتجزة في إسرائيل.. من دون جدوى.. بينما أفرجت أنقرة عن زوجته بعد مناشدات.. وبدأ ترامب كعادته يهدد بعقوبات ويرد أردوغان برفض العقوبات ويريد طريقًا آخر، وبعد وضع القس قيد الإقامة الجبرية في تركيا، فرضت الحكومة الأمريكية عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، وذلك بمصادرة أملاكهما وأصولهما ومنع التعامل معهما، وقطعًا توعدت أنقرة بالرد.. هاتان دولتان في حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وتركيا من أكثر الدول في المنطقة دعمًا لإسرائيل، وهذا العبث بالزعامة لرئيسي الدولتين، ما هو إلا انعكاس خطير لشخصيتهما، ولا يعبر ما يجري عن المشتركات الأساسية للدولتين.. لكن هوس أردوغان الذي يعتبر أو يتعامل مع نفسه ويريد من الآخرين التعامل معه على أساس أنه وريث السلاطين، لا يضاهيه سوى إحساس ترامب بأنه راعي بقر يريد أن يفعل في حياته شيئين اثنين، ترويض قطيع من الأبقار، والسطو على قطارات الذهب في الغرب، وما بينهما القضاء على الهنود الحمر.. في أوقات سابقة من الأزمنة الاستعمارية الأمريكية فإن أبسط ما كان يمكن أن يفكر فيه رئيس أمريكي هو إنزال المارينز على الشواطئ التركية، وتحرير القس والعودة به إلى ميناء نيويورك.. وهذا الأمر حدث في القرنين ال19 وال20 مئات المرات.. ومن هذه المرات العديدة ما حدث في يوليو عام 1849 عندما تدخلت قوة بحرية أمريكية في سميرنا (أزمير) لإطلاق سراح مواطن أمريكى اعتقله النمساويون (كتاب الإصلاحات العربية والتحديات الدولية للدكتور صالح بكر الطيار- مركز الدراسات العربي الأوروبي، ويرصد الكتاب نحو 300 نموذج للتدخل الأمريكي غير القانوني في العالم منذ عام 1835 إلى 1975). وبعيدًا عن الرئيسين وسلوكهما العجيب فإن النخبة السياسية الأمريكية بشكل عام واليمين المسيحي بشكل خاص مستاء من سلوك أنقرة، خاصة بعد التقارب مع إيران وروسيا، وترى النخبة أن أردوغان يحتاج نوعًا من العقاب حتى يتوقف عن سياساته التي أصبحت معادية لأوروبا والولاياتالمتحدة بمفاهيمه ذات الطابع الإسلامي المتشدد، وتحديه للمصالح الغربية وتقاربه مع أعداء الولاياتالمتحدة، في تجاوزر لتاريخ طويل من التعاون الإستراتيجي والعسكري والاقتصادي استفادت به تركيا منذ تأسيس تركيا العلمانية عام 1923، ويرى مراقبون في واشنطن أن أسلوب التهدئة والصبر الذي اتبعته واشنطن بحذر مع أردوغان لم يجد نفعًا، وأنه حان موعد البدء في أسلوب جديد. وتلاحظ دوائر صنع القرار في واشنطن أن العقوبات الاقتصادية ربما ليست بالمؤذية إلى الدرجة التي تضر بالعلاقات، لكن مجرد استخدام كلمة "عقوبات" بين حلفاء كان كفيلًا بأن يهوي بسعر الليرة في الأسواق الدولية، والولاياتالمتحدة بثقلها الاقتصادي تتحكم وتراقب حركة الأموال في العالم، وتستطيع أن تخنق الاقتصاد التركي وتوجعه عبر التلويح فقط بعقوبات أخرى، حال تمادي تركيا في العناد والتحدي، ومن ذلك إمكانية الطلب من مؤسسات التمويل الدولية عدم التساهل في التعامل مع أنقرة ومتطلباتها المالية، كما تستطيع أن تقدم لائحة أوسع بمسئولين أتراك آخرين لتقييد حركتهم أو مصادرة أموالهم. وتستخدم قضية القس الأمريكي للرد على مجمل سياسات تركيا التي أعطت ظهرها لحلفائها القدامى. وربما ينظر الآن القس الأمريكي الهادئ من شرفة مقر إقامته الجبرية، وهو غارق في تأمل منظر الرئيسين العجيبين في آخر الزمان، قبل أن تصدر محكمة ما، أي محكمة في تركيا قرارًا بالإفراج الفوري عنه؛ ليعود إلى نورث كارولينيا.. وتنتهي اللعبة المؤذية ولو إلى حين.