أستعير هذا العنوان من عبارة وردت في إحدى مسرحيات الراحل لطفي الخولي في ستينيات القرن الماضي ولاقت استحسانا جماهيريا واسعا، والعبارة كانت "أقفل الشباك واللا أفتحه؟!". في العقد السبعيني من القرن الماضي عرفنا وقرأنا عما كان يسمى حينذاك بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد، سألنا، يعني إيه؟ أجابوا أنه النظام الذي يختلف عما كنا نسير عليه منذ نهاية الحرب الثانية والذي سيسمح بحرية انتقال السلع والمال والأفراد بين الدول دون عوائق، فالعالم من وجهة نظر الغرب الرأسمالي، سيتحول إلى قرية صغيرة متفاعلة الأركان الاقتصادية، يتحرك بينها الأفراد والاستثمارات والسلع بحرية كاملة؛ بحيث تستفيد من حركتها كل الشعوب، وسنتنافس في الجودة والاتقان وفقط.. هكذا بدأوا وصدقنا قسرًا. فمن منا من سكان العالم النامي يستطيع أن يحاور أو يناقش؟ كل الذي طلبناه أن تكون الحركة أكثر ديمقراطية؛ بحيث تكون الفائدة موزعة بشكل عادل، كما طالبنا ألا "يتأمرك" هذا النظام الاقتصادي العالمي، كنا نريده عالميًا وليس أمريكيًا، كنا على يقين بأن أمريكا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية هي القائدة لهذا الاقتصاد العالمي؛ لأنها الرأسمالية الأكبر في العالم، خاصة وقد ظهرت تكتلات اقتصادية تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية، مرة مع كل من كنداوالمكسيك، وأخرى مع بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وتمت الموافقة على مواثيق دولية تحدد الإطار تفصيليا لتحديد إطار النظام العالمي الاقتصادي الجديد، من هنا كان الخوف على بلادنا والتوجس من الأخطار المتوقعة. وفي عام 1980 تم التدشين العلني لهذا النظام عندما جاءت مارجريت تاتشر على رئاسة الوزارة في المملكة المتحد، ثم دخل ريجان إلى البيت الأبيض منتصرًا في معركة الرئاسة الانتخابية، وفرض علينا جميعًا شعار التجارة الحرة والعادلة أي باللغة الإنجليزية، free and fair trade . في هذا العقد تحديدًا، وفي ظل القيادتين الإنجليزية والأمريكية على جانبي الأطلنطي حدثت تغييرات جذرية في الاقتصاد الوطني في غالبية البلدان، فقد بدأت عملية تصفية القطاع الاقتصادي للدولة، ورفعت يد الدولة عن الاستثمار، وانكمشت ميزانيات الخدمات. حدث ذلك في كل البلدان حسب التأثيرات الواقعة على كل منها، وحدث ذلك في مصر تحت سمع وبصر الجميع، ولم يستمع لرأي المعارضين، وباتت الدول الصغيرة النامية تدخل في مرحلة العولمة التي يتحدثون عنها بشروطهم ووفق طلباتهم تحت عبارة "الاندماج في الاقتصاد العالمي"، ولأن هذه الدول الصغيرة النامية لا تملك مقومات المنافسة الاقتصادية فقد باتت سوقًا للسلع الصغيرة والكبيرة والاستهلاكية تحديدًا. تصورنا حينذاك أن العولمة انحصرت في حرية انتقال السلع، أما الأفراد والمال فقد نسيهما أصحاب القرار الرأسمالي المتعولم، ولكن حدث أن أخذت الجماهير الفقيرة المعدمة التي باتت تخسر كل شيء بدءًا من الفرص في العمل إلى فرص الحصول على تلك الخدمات البسيطة التي كانت تحصل عليها في أوطانها، بدأت هذه الجماهير تأخذ زمام المبادرة الخطرة بالزحف اللا قانوني وغير الشرعي على البلدان الغنية، من أمريكا اللاتينية وتحديدًا المكسيك، بدأ الزحف سيرًا على الأقدام على الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومن إفريقيا والشرق الأوسط بدأ الزحف على البلدان الأوروبية في مراكب عبر البحر المتوسط، فتنبه مؤسسو العولمة إلى خطورة الشعار ومردوده السلبي عليهم فبدأوا يحاربون الهجرة غير الشرعية بغلق الحدود الأوروبية الساحلية المطلة على المتوسط وببناء أسوار عالية تفصل بين حدود بلادهم والبلدان المصدرة للعمالة غير الشرعية. وهكذا بدأت كل من الولاياتالمتحدة والبلدان الأوروبية تجني ثمار أحد عناصر شعارهم الخادع وهو عنصر حرية انتقال الأفراد، وظهر بوضوح أنهم كانوا في الأساس يهدفون إلى حرية انتقال السلع وتحديدًا سلعهم إلى الدول النامية التي لا تملك القدرة على المنافسة. ولكن استمر أحد عناصر الشعار خافيًا لا يذكره المحللون وهو حرية انتقال المال، وهو الشعار الذي اعتبرناه لصالحنا، لأنه يسمح بانتقال الاستثمارات التي ستعوضنا عن وحدات القطاع العام التي تم بيعها دون أن يعوضنا مشتروها بإنتاج غير الذي فقدناه أو بفرص عمل غير تلك التي تم تسريحها، ووضح لنا أن انتقال الاستثمارات من بلدها إلى أي من البلدان يتم بناء على قرار سياسي وأن مبدأ حرية انتقال المال كان خديعة أخرى. والأكثر غرابة كان اكتشافنا مؤخرًا أنه حتى قرار انتقال السياح من بلد إلى آخر يتم بناء على قرار سياسي، لا يخضع لحرية الفرد في البحث عن منتجع سياحي يستريح فيه، وإنما يخضع للإرادة السياسية تجاه البلد الذي تتجه إليه السياحة. خلال الفترة من 1980، عام تدشين هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد، إلى عام 2018 لم تتحقق طموحاتنا التي وعدونا بها، ولم نندمج في قرية كبيرة، ولم نتلق الاستثمارات ولا السياحة لإنعاش اقتصادياتنا المتهالكة، وإنما شاهدنا إضعافًا مستمرًا لتلك الخلايا الاجتماعية التي كانت في القديم تقدم لجماهيرنا البعض من العون في تحصيل بعض المكاسب، والحفاظ على ما نملك من بعضها، تم إضعاف الحركة النقابية والحياة الحزبية بسبب التغيير الهيكلي في العملية الإنتاجية، وحتى تلك الحركة العالمية الشبابية التي عاصرناها تحت مسمى الحركة المناهضة للعولمة، تلاشت ولم تعد قائمة. باتت العولمة منهاجًا عالميًا لا يستطيع الفقراء من الدول أو المواطنين الفكاك منها أو الاستفادة منها، وكأنها قضاء وقدر، لا تستطيع الدول الصغيرة المساس بأي من القواعد التجارية التي تحميها منظمة التجارة العالمية. والآن تخرج الولاياتالمتحدة على العولمة وشعارها "حرية انتقال السلع والمال والأفراد" وتبدأ في العودة إلى السياسات الحمائية التي كنا عليها قديمًا، وكانت تساعدنا على نمونا الاقتصادي، وبدأت عناصر "العولمة" في التراجع، ولا نعرف على وجه التحديد ماذا ستفعل الدول النامية الصغيرة، هل نتعولم أم نعود إلى حدودنا "الحمائية"؟ لذا نسأل: "نقفل الشباك واللا نفتحه؟!"