لم تكترث إسراء صابر، الباحثة البيئية، لعادات وتقاليد ترسخت في مجتمعنا الشرقي، تمنع الفتاة من مشاركة الرجال في عمل طالما اقتصر عليهم، وانطلقت تحفر وتنقب بوادي الريان، لتساهم مع فريق عمل في تقديم أندر الحفريات الأثرية في العالم التي يضمها "وادي الحيتان". يعود عمر "وادي الحيتان" إلى أكثر من 40 مليون سنة، وهي منطقة داخل محمية وادي الريان بمحافظة الفيوم، وصلت إليها بعثات أجنبية منذ أواخر القرن ال19، حيث تم اكتشاف أول جزء من عظمة حوت في جزيرة "القرن الذهبي" بمحمية قارون القريبة من وادي الريان. توالت البعثات التي أكدت تميز حفريات الفيوم، إلى أن وجدوا أرجلًا خلفية صغيرة الحجم لهيكل حوت، أوضحت دليل تطور الحيتان من ثدييات برية، وتكونت لديها أرجل تساعدها على الحركة، تضاءلت مع التغيرات المناخية حتى اختفت تمامًا، لتصبح الحيتان بالصورة التي نراها الآن ثدييات مائية. لا تناسب طبيعة المنطقة الرقة والأنوثة التي تبدو عليها إسراء فحين تنظر إليها لا يُخيل إليك أن هذه الفتاة قد تكون قادرة على تحمل حرارة الصحراء وثورة رمالها، لتخوض سباق التنقيب بين فريق باحثين من الرجال يكبرونها سنًا وقدرة على التحمل. تحكي لنا إسراء بدايات عملها في الحفريات عام 2014، حيث وقعت وزارة البيئة بروتوكول مع مركز الحفريات الفقارية لجامعة المنصورة، لتدريب الباحثين المهتمين بالحفريات، وقدمت وحصلت على فترة التدريب الكافية، وحين بدأ العمل على متحف الحيتان، بمحمية وادي الريان، في الفيوم، أبدت رغبتها في الالتحاق، وكانت أول متخصصة في علم الحيوان تعمل في مجال الحفريات. واجهت إسراء -30 عامًا- صعوبات عديدة حيث رفضت الوزارة في بادئ الأمر، بسبب طبيعة المنطقة التي تقع في صحراء خاوية لا يمكن توفير كافة معايير الأمان بها كما تنقطع عنها كافة وسائل الاتصال. "عشان أطمن أهلي بمكالمة تليفونية محتاجة أمشي 5 كيلو".. تشرح الباحثة معاناتها بسبب عدم وجود وسائل اتصال حيث يلزم لإجراء محادثة الوصول بالسيارة لأعلى قمة بالمنطقة. لم تشعر إسراء بخوف لعدم تأمين مكان العمل بوادي الحيتان، حتى بعد وقوع حوادث اختفاء ووفاة.. "لدي هدف واضح وأسعى لتحقيقه، وكنت راغبة أن أثبت لمجتمع شرقي تمسك بعادات قديمة، أن المرأة قادرة على العمل الجاد ومنافسة الرجال في الكثير من المهام الصعبة". فريق العمل يتكوم من 7 أفراد، وتشعر إسراء معهم دائمًا بالأمان.. "خوفهم المستمر على بعض، كفيل أن يشعرك وكأنك وسط أسرتك". تصف الباحثة التي رفعت راية التحدي شعورها خلال فترة العمل في المتحف: "عارفة يعني إيه بنت عايشة في الصحراء، غرفتي كانت المخزن وبدون قفل ولا تهوية، أحيانًا كنت بخاف، لكن التحدي خلاني أكمل المسيرة، اللي تحملت مسئوليتها منذ البداية". تشرح إسراء طبيعة منطقة وادي الحيتان التي تضم أكبر تجمع لهياكل الحيتان، التي عاشت هناك بسبب التيارات المائية الهادئة في عصور سحيقة حيث توفر الغذاء من أسماك متنوعة وعرائس البحر، وكانت الحيتان مفترسة تمتلك فكًا قويًا، عكس الحيتان الموجودة الآن، التي تعتمد في غذائها على فلترة المياه لأكل الهائمات الحيوانية لأنها بدون أسنان. يعود عمر الحيتان بالمنطقة إلى 45 مليون سنة، فترة العصر الأيوسيني، وكانت المنطقة مغطاة بمياه البحر التيسي "البحر الأبيض المتوسط الآن"، وبسبب التغيرات المناخية المتقلبة، بدأت المياه في الانسحاب ليتكون القطبان الشمالي والجنوبي. تفاجئنا الباحثة بأن العلماء قادرون على تصور هيكل كامل لأي حفرية، من خلال عظمة واحدة، لكن الأمر مختلف تمامًا وأنت تقف داخل وادي الحيتان، حيث تجد نفسك أمام هياكل عظمية سليمة كاملة على نفس صورة موتها. "كان منظره رائعًا وكانت سعادتنا لا توصف".. تحكي إسراء عن شعور فريق العمل عندما استطاعت بعثة مصرية كاملة اكتشاف الحوت المتكامل الذي يصل طوله إلى 18 مترًا في إبريل 2015، بعد أن تم اكتشاف أول هيكل بواسطة بعثة أجنبية كانت تدرس طبيعة المنطقة. أصعب الحفريات التي تم استخراجها وفقا لإسراء هو "حوت دورودن" فقد كان يستقر على طريق رملي رأسي على ارتفاع 90 مترًا، "من الصعب الصعود إليه، وأجهدنا كثيرًا"، لأنه يتميز بعظام قوية في حالة الوفاة تلتف حول بعضها البعض، وحتى لا يتضرر تم عمل "جاكت جبس" لنقله بأمان. تسرد لنا إسراء الأساطير التي انتشرت حول "قروش الملائكة"، تلك المحاريات التي اكتشفت بوادي الحيتان، وتشبه العملة المعدنية قائلة: تحكي أساطير عديدة، إن "قروش الملائكة"، سقطت من ملائكة السماء، وكانت تستخدم كعملة في عصر الفراعنة، وهي موجودة بكثرة في الأحجار التي صنعت منها أهرامات الجيزة. قروش الملائكة عن المعدات المستخدمة في التنقيب تقول إسراء: كنا نبحث عن أفضلها ونجمعها من المواقع الدولية ونرسل في شرائها، وكثيرًا ما كنت تُمنع من الدخول للبلاد، لأنها حديثة ولم تكن متداولة. بعض الأحجار والحفريات قد يكون هشًا بسبب عوامل التعرية وبالتالي كنا نضيف لها مواد كيميائية لتقويتها، ونصنع لها جاكت جبس مبطن بورق فويل للحفاظ عليها ونقلها إذا استدعى الأمر، كما كنا نستخدم فرش خفيفة في تنظيف الحفرية.. تضيف الباحثة. كان علم الحفريات في مصر يقتصر على الجيولوجيين (المختصون بدراسة طبقات الأرض) في حين أنهم غير معنيين بدراسة التكوين الكامل للكائنات الحية، فهذا في صميم عمل البيولوجيين (علماء الأحياء) وفقًا لدراستهم، وكانت إسراء أول متخصصة بيولوجية تلتحق بفريق عمل الحفريات، حيث كان وادي الحيتان هو بدايتها. أُعلنت وادي الحيتان "منطقة تراث طبيعي عالمي" من منظمة اليونسكو، عام 2005، لأنها تمثل حركة وصل بين أنواع الكائنات البرية القديمة والمائية الحديثة، مشيرة أن "وادي الحيتان" تراث إنساني لا يوجد في العالم ما يضاهيه، "لدينا نموذج يحتذى به"، من خلال إقامة أول متحف لتطور الحفريات وربطها بالتغيرات المناخية، فهذه الفكرة لم تأت لأي من الباحثين في العالم. تعتقد إسراء أن الحفريات ستخلق نوعًا جديدًا من السياحة التي من شأنها زيادة الدخل القومي وجلب العملة الصعبة، إذا أصبحنا قادرين على استغلالها على النحو الأمثل، "عمل الحفريات مستمر ولن يتوقف، فالصحراء الغربية مليئة بهياكل الديناصورات التي تعود للعصر "الكريتاسي". إسراء صابر الباحثة البيئية أثناء التنقيب حصل فريق الحفريات على جائزة أحسن متحف في مصر ولأول مرة يحصل عليها متحف غير أثري، من المجلس الأعلى للمتاحف، وتشيد "اليونسكو" بمجهودات الفريق في المؤتمرات الدولية المعنية بالسياحة الجيولوجية وتشدد على نجاح خطة إدارة المكان، التي ساهمت في أن يوضع "متحف الحيتان" في قمة التراث الجيولوجي عالميًا. كان العمل متواصلا في إنشاء متحف وادي الحيتان، منذ عام 2014 وحتى 2016، ومن أصعب أوقات العمل كانت شهر رمضان، لأن العمل كان متواصلا من الصباح وحتى السحور باستثناء وقت الإفطار. رغم كل الجهود لم يدرج اسم فريق العمل بالكامل في لوحة متحف "وادي الحيتان"، لكن إسراء التي أصيبت بالأنيميا وقروح في العين ورغم هذا تستعد إسراء لمهمة جديدة في أحد مناطق الحفريات في صحراء مصر الغربية. إسراء صابر الباحثة البيئية أثناء التنقيب فريق عمل وادي الحيتان فريق عمل وادي الحيتان أثناء التنقيب .