د. محمد عبد الفتاح: تحويل المؤسسات التعليمية إلى وحدات إنتاجية - د. منى صالح: بناء قدرات الطالب الفنية لسد الفجوة مع سوق العمل
يبدو أن مشكلة التعليم فى مصر أصبحت تدور فى دوائر مفرغة منذ أكثر من خمسة عقود بلا حل.. بل تتفاقم عاما بعد آخر فى ظل اللجوء إلى حلول شكلية، قائمة على قرارات عشوائية فى معظم الأحيان.. من هنا ونحن ندخل إلى عام دراسى جديد.. وفى هذه المرحلة الفارقة من تاريخ مصر فإننا فى أشد الحاجة إلى البدء الجاد الحقيقى والمخلص لإصلاح منظومة التعليم فى مصر باعتبارها أساس كل إصلاح.. وهذا ما سنحاول طرحه مع مجموعة من الخبراء فى ذلك التحقيق. فى البداية يقول د. على راشد، أستاذ التربية بجامعة حلوان: إصلاح منظومة التعليم المصرى سواء فى جانب قصور اختيار المعلم وتدريبه وإعداده أم ضعف وتخلف المناهج أم سوء استخدام التكنولوجيا التعليمية أم إهمال الأنشطة وتكدس الفصول أو انتشار الدروس الخصوصية والغش فى الامتحانات أو انعدام التكامل بين التعليم وسوق العمل، وهذه الجوانب من أوجه القصور تحتاج للتغلب عليها إلى خطط إصلاح قصيرة المدى تتمثل فى تغيير نظام القبول بكليات التربية، ورفع مجموع الطلاب الراغبين فى الالتحاق بها ووضع برامج رفيعة لإعدادهم أكاديميا وتربويا وثقافيا ونفسيا، مع تطوير مناهج التعليم ونظم الامتحانات والتقويم لتشمل الأخذ فى الاعتبار جميع الأنشطة التى يقوم بها الطلاب سواء فى فترة الدراسة أم خلال الصيف عند هذا التقويم، وتحسين البنية المدرسية بمساعدة المجتمع المحلى على كل المستويات وبالقدر المستطاع.
إصلاح جذرى ويضيف د. راشد: وعلى مستوى الخطط طويلة المدى يمكن إصلاح التعليم جذريا خلال عشر سنوات إلى 25 عاما، وتبدأ الحلقة الأولى من هذا المخطط خلال عشر سنوات، أى من العام المقبل 2017 حتى 2027، ويستهدف إعداد جيل متميز من المعلمين والمعلمات قادر على تحقيق الأهداف التربوية المنشودة، ويتم اختيار هؤلاء المعلمين من بين تلاميذ وتلميذات الصف الأول الإعدادى من عشرين مدرسة إعدادية على مستوى كل محافظة، ليكونوا قادة معلمى المستقبل من خلال لجان متخصصة تجرى اختيارات ومقاييس ومقابلات شخصية بعيدا عن الواسطة والمحسوبية، تعتمد على المعايير التالية: البناء الجسدى السليم وتميز القدرات العقلية المتنوعة، والسمات الشخصية المستهدفة، والأهم حب العمل فى مهنة التدريس، ثم يتم التعاقد مع هؤلاء التلاميذ وأولياء أمورهم على التوجه لإعدادهم لمهنة التدريس فى هذه السن الصغيرة، مقابل امتيازات مادية ومعنوية وتوفير رعاية خاصة لهم، عبر حاضنات تربوية وعلمية دقيقة تحت مسمى مدارس تربوية إعدادية، تستمر ثلاث سنوات، ثم يتم إنشاء عدة مدارس ثانوية تربوية، تكون الدراسة فيها على أسس الاكتشاف والاستقصاء والتعليم الذاتى، والتعليم التعاونى، والتعليم الفردى، وفى هذه المدارس يتم تأكيد التعليم المستقل للطالب، وأيضا داخل مجموعة صغيرة واندماجه فى العملية التعليمية، مع دراسة مقررات دراسية تساعد على الاكتشاف والاستقصاء وحل المشكلات بالعمل والعروض العملية والوصف الذهنى والدراما التربوية، وإثارة الفضول وحب الاستطلاع والتجريب والبحث والتفكير المتشعب، مع تنوع بيئة التعليم داخل الفصل الدراسى وفى المعمل والمكتبة والمسرح والمدرسة وأماكن الأنشطة المختلفة والرحلات والزيارات الميدانية، مع التأكيد ارتباط الحياة المدرسية بالبيئة المحلية للطالب ومجتمعه المحلى والقومى والعالمى، والعمل بمبدأ التربية من أجل الحياة، واستخدام أساليب حديثة مثل المحافظ الإلكترونية التى هى تجميع تراكمى لكل أعمال وإنجازات وسلوكيات وجوانب شخصية هذا الطالب، حيث يمكن تخزين جميع المعلومات عنه وأعماله وخصائصه السلوكية وأبعاد شخصيته على قرص مدمج يعد توثيقا حقيقيا له ومرجعا دقيقا لتقويمه. ويرى الأستاذ الدكتور على راشد، أن المرحلة الأخيرة هى إعداد هؤلاء الطلاب خريجى المدارس الثانوية التربوية فى كليات التربية لمدة خمس سنوات من خلال إعداد أكاديمى تخصصى يستهدف تعميق فهم الطالب للمادة التعليمية التى يتخصص فيها ومساعدته على التمكن من إدارتها والقدرة على توظيفها فى مختلف المواقف التعليمية، بما يجعله معلما قديرا واثقا من نفسه مكتسبا للقدرة على الإنتاج والتأثير فى تلاميذه وإفادتهم وكسب تقديرهم واحترامهم، مع الإعداد المهنى التربوى الذى يستهدف توعية معلم المستقبل بالفلسفة التربوية المطلوبة والأهداف القومية من التعليم والإعداد الثقافى، الذى يجعله ملما بثقافة عصره سواء التى لها صلة بمادته التى يدرسها أم المعرفة الإنسانية عموما، مع الإعداد الشخصى الذي يستهدف تنمية قدراته فى كل المجالات سواء العقلية أم البدنية، وتنمية صحته النفسية وعلاقاته الاجتماعية السوية ومهاراته الإبداعية، ليكون جديرا بلقب معلم المستقبل.
صلاحية الشهادات ويقول د. محمد الطيب، رئيس جمعية كليات التربية والخبير التربوى: إن السلم التعليمى فى مصر جامد، والغريب أن هذا السلم يضيق كلما ارتفعنا إلى أعلى، فمثلا نجد الأماكن فى المرحلة الإعدادية تقل بنسبة 25 % عن الابتدائية، بينما 65 % تقريبا من طلاب الثانوى العام لا يلتحقون بالجامعات، وبالتالى فنظامنا التعليمى مجرد ماراثون ساخن يتسابق فيه الجميع بهدف الفوز، وبأى ثمن بموضع قدم فى السلم التعليمى الأعلى، ومن ثم بفرصة عمل فى سوق العمل الأرقى، وهذا النظام التعليمى المختل لا يسير إلا بمجموعة من المنشطات تحتل الآن الأولوية القصوى فيه مثل: الدروس الخصوصية والكتب الخارجية والملازم التلخيصية، ومراجعات ليالى الامتحانات، وأخيرا تسريب الامتحانات والغش المنظم. ويرى د. الطيب أن حل هذه المشكلة هو هدم السلم التعليمى الجامد (ابتدائى - إعدادى - ثانوى - جامعى)، ليتحول إلى شجرة تعليمية، بمعنى أن تنفتح المؤسسات التعليمية على سوق العمل بحيث يكون الدخول من وإلى سوق العمل والمؤسسة التعليمية مفتوحا طوال الوقت، أى يخرج الطالب إلى سوق العمل وقتما يشاء ثم يعود لاستكمال دراسته، وهذا يتطلب إلغاء فكرة «مدة الصلاحية» لشهاداتنا المدرسية، فنحن دون العالم كله ننفرد فى مصر بمدة صلاحية للشهادتين الإعدادية والثانوية العامة، برغم أنهما يشكلان عنق زجاجة، فصلاحية الشهادة الإعدادية هى شهران منذ ظهور نتيجة الشهادة الإعدادية، فالطالب الذى لا يلتحق خلالهما بالتعليم الثانوى، لا يستطيع إكمال تعليمه، أما شهادة الثانوية العامة فصلاحيتها هى فترة التنسيق الجامعى التى لا تزيد على أسبوعين، بعدهما يضطر الطالب الذى يرغب فى إكمال تعليمه إلى إعادة الثانوية العامة مرة أخرى لمجرد أن ظروفا ما منعته من التقديم فى التنسيق، إنه أمر عبثى بكل المقاييس وليس له أى مبرر علمى أو تربوى، يجب إيقافها فورا. ويشير د. الطيب إلى أن المشكلة الأخرى التى تعرقل تطور التعليم المصرى هى ضعف التمويل، وحلها فى منتهى البساطة هو أن يتم تحويل المدارس فى مختلف مراحلها إلى وحدات إنتاجية، بمعنى أن تقوم المدرسة أو الجامعة بتقديم خدمات تعليمية وتثقيفية بجانب إنتاج منتجات ومشغولات بيئية وفنية وغذائية بسيطة تدر عليها دخلا، كما يمكن استغلال منشآت التعليم نفسها فى أنشطة تخدم المجتمع، وتدر دخلا على المنشأة التعليمية كأن تؤجر أفنيتها كملاعب أو قاعات مناسبات اجتماعية أو توزع الملابس والأدوات المكتبية بأسعار أرخص لكى تزيد من مردودها المادى الذى يسهم فى تطوير التعليم.
مدارس منتجة ويطالب د. محمد عبد الفتاح، رئيس النقابة العامة للتعليم الخاص بالبحث عن حلول غير تقليدية لمشكلات التعليم المالية والفنية والإدارية، مشيرا إلى أن حل مشكلة ضعف ميزانية التعليم ستظل قائمة فى ظل أوضاع الاقتصاد المصرى الصعبة، ما لم تتم زيادة الموارد من خلال توظيف إمكانات ومعدات وماكينات التعليم الفنى فى إنتاج احتياجات الوزارة من أثاث، ومكاتب، وسبورات، وخلافه من منتجات خشبية، وبيع ما يزيد منها للمجتمع المدنى حوله بأسعار تنافسية، مع استغلال إمكانات التعليم الزراعى فى إنتاج الخضراوات والفاكهة والشتلات والبذور وغيرها وبيعها للبيئة المحلية، والأهم التعاقد مباشرة مع موردى الكتب الأجنبية من جانب الوزارة رأسا دون وسطاء لتوفير الإكراميات والعمولات وخلافه. تأهيل وعن الحلول المقترحة لمشاكل التعليم من الجانب الفنى يدعو د. العشماوى عبدالكريم أحمد، الأستاذ بكلية الآثار جامعة جنوب الوادى إلى تأهيل مجموعة من الفنيين على مستوى رفيع من الكفاءة سواء داخل أم خارج مصر، ليكونوا حلقة الوصل بين الدراسة النظرية والتطبيقات العملية فى مختلف المجالات، مثل مجال ترميم الآثار الذى يكبد الدولة سنويا ملايين الدولارات لاستدعاء خبراء من الخارج، وبهذا يتم تضييق الفجوة بين متطلبات سوق العمل واحتياجات السوق. وترى د. منى صالح، وكيل المعهد العالى للتكنولوجيا بالإسكندرية، ضرورة إعادة النظر فى منظومة المدارس والمعاهد الفنية على صعيد الرؤية والتدريب وجودة المخرجات فى مختلف التخصصات، لأنها الآن تمثل عبئا جديدا على العمالة المصرية، والحل فى أن تتجه منظومة التعليم الفنى لبناء قدرات الطلاب على مستويات مهارية متقدمة تمكنهم من المنافسة على الخرdطة الاقتصادية محليا وعربيا وعالميا، هذا إذا كنا جادين بالفعل فى إصلاح التعليم.
صدمة.. سنة أولى مدرسة ليلة اليوم الدراسى الأول، يظل الصغير محتضنا بفرح شديد ملابسه الجديدة، والحذاء الملون، والحقيبة التى تحمل صور ميكى ماوس والرجل العنكبوت، تماما كما يفرح بملابس العيد، فبعد ساعات قليلة يخطو الصغير أولى خطواته فى طريق طويل فى مسيرة التعليم، حيث سيذهب الصغير لأول مرة إلى المدرسة، وهو لا يدرك وربما من حوله، كيف يتعاملون مع صدمة السنة الأولى؟ برغم الكتب الملونة، والحلوى وحكايات «الميس» الشيقة. ومع الأسف الشديد كثير من أولياء الأمور سواء الأب أم الأم لا يدركون أبعاد هذه الصدمة، برغم أن كليهما مر بالتجربة نفسها وهو صغير، والصدمة تبدأ فى تلك اللحظة التى تنزع «الميس» يد الصغير أو الصغيرة من يد الأم، وتتركه واحة الحنان ليحضر الحصة الأولى، مع مجموعة من الأغراب، ليشعر الصغير وقتها أنه غرق فى بحر كبير من الضياع، وأن أمه التى تركته لهؤلاء الأغراب لن تعود إليه، وربما لن يراها ثانية. من جانبه يشبه د. يسرى العزبى إخصائى الأمراض النفسية والعصبية للأطفال هذه الصدمة بصدمة العظام، حيث يحرم الطفل من نهر اللبن المصحوب بالحنان الذى ظل ملتصقا به لمدة عامين، ليستعيد الطفل فى يومه الدراسى الأول، هذا الشعور القاسى، من خلال عقله الباطن، وإن كانت صدمة اليوم الدراسى الأولى فى حياة الطفل الصغير تكون أكبر، لأن الأم تتركه فجأة، لينتقل من عالم الصغار الذى يعرفه إلى عالم الكبار الذى لم يألفه بعد، والطفل هنا لا يستطيع بحكم سنه الصغيرة استيعاب «خيانة الأم» له فى تلك اللحظة، فيتكون لديه شعور عدائى تجاهها عقابا لها على تخليها فى اليوم الأول له عن الدراسة، وهى - فى تصوره - لحظة تاريخية الأصعب فى حياته، ولهذا نجده عندما يعود إلى منزله فى الأيام الأولى للدراسة، يتعمد تجاهل أمه، وبالرغم من أنه قد يرتمى أحيانا فى أحضانها عند عودته من المنزل بفعل الشوق إلى حنانها، لكنه سرعان ما يعود إلى تجاهل أمه والابتعاد عنها، وقد يصل الأمر أحيانا إلى الاعتداء على أمه باليد، أو تعمد إيذائها بصورة معينة كأن يقوم بعمل هى ترفضه. وينصح د. يسرى العزباوى الأم بتفهم هذه التصرفات الناجمة عن صدمة السنة الدراسية الأولى، فلا تؤنبه ولا تعاقبه مهما أخطأ أو تجاوز، وأن تتصرف بحكمة وحنان عند سؤاله عن أول يوم دراسى له، والأفضل أن تقرأ ملامح الطفل قبل أن تسأله هذا السؤال، فإذا رأته ممتعضا فعليها أن تنتظر حتى يبادرها هو بالحكى من تلقاء نفسه. ويحذر د. يسرى الغرباوي من لجوء الأم إلى الجمل التقليدية المحفوظة التى ترددها الأمهات غالبا مثل «المدرسة حلوة، وفيها أصحاب سكر، والميس بتحكى حكايات جميلة»، وذلك لأن الطفل وقتها يكون انطباعا سلبيا عن المدرسة، ويراها - أيا كان مستواها وإمكاناتها المادية، مجرد سجن خطفه من حضن أمه وبيته، وبالتالى لن يصدق هذه الأقاويل عنها وتتفاقم أزمته. كما ينصح بألا تدخل طفلها فى معسكر دراسى منذ اليوم الأول، وتجبره على المذاكرة، وعليها أن تراعى أنه خارج من بيئة مختلفة إلى نظام جديد، وعليها أن تعوده على هذا النظام بالتدريج حتى لا ينفر من المدرسة والمذاكرة والأم، والأخطر تستمر آثار صدمة السنة الأولى وقتا أطول من معدلها الطبيعى الذى لا يزيد على الأسبوع الأول.