روبرت فيسك: هيكل رمز وعميد الصحافة العربية مقاتل مخضرم وربما أهم مؤرخ وشاهد عيان على تاريخ مصر المعاصر - هناك نحو 17 رسالة جامعية عن الأستاذ بجامعتى هارفارد والسوربون.. وهو يحرص على قراءتها لأنها أعمال جادة بلا أهواء
- فرانسوا ميتران قام بإهدائه نسخة من الجزء الأخير من مذكراته وتمنى الأستاذ أن يبادله بإهدائه كتابا آخر لكن القدر كان أسبق
- السير ستيفن رانسيمان أستاذ التاريخ الأشهر فى رسالة للأستاذ: لقد كان مثار اهتمامى فى تجربتك هو أن التاريخ عندك له آذان وله أيضا عيون
إن محاولة رسم صورة زيتية للأستاذ بتجميع الظلال والخطوط والرتوش المتناثرة عنه عبر الحدود، تمر بطريق العبور به باتجاهين، حيث الحدود بين الساحل والداخل فى قارة هيكل الصحفية، حدود ذات طبيعة خاصة جدا حفرت مسارها فوق رمال ذهبية قائمة على الاحترام المتبادل بين الطرفين. التبادلية والندية هما السمتان الغالبتان عليها سواء فى الدوائر الإعلامية أم القاعات الرئاسية، حيث تبادل الإهداءات لكل كتاب بكتاب ورسالة برسالة وإيماءة بتحية، فهناك مراسم خاصة جدا للأستاذ خارج الحدود، ترتفع به من مقام الصحفى الزائر أو الجورنالجى «الاسم الذى يحلو له « إلى رتبة الصديق، بما تفرضه تلك الوشائج من تواصل إنسانى دائم يتجاوز موسمية الاتصال المهنى، بحيث تشعر دائما بوجود بروتوكول مختلف فى تلك العلاقة المميزة بين هيكل ودوائر صنع القرار بالعواصم الغربية، فصورته من منظور غربى صورة من لحم ودم، ترصد التنهيدة واللفتة والهمسة بل ولحظات الصمت بحضور صاحبها الطاغي.
تلك العلاقة الفريدة من نوعها والتى منحته إياها تجربته الفريدة أو منحها هو لذاته بذكاء موهبته المتوثبة دوما، كان الأستاذ طرفا أصيلا فيها، فاعلا ومشاركا أحيانا . فالحديث عن صورة هيكل على أغلفة العقل الغربى، يستدعى بالبديهة وابتداء الحديث عن كتبه التى تم نقلها إلى الغرب بوصفها بطاقة التعارف بينه وبين الرأى العام الغربى، وحتى فى تلك الزاوية تفاجئنا مراسم غير تقليدية خارج المألوف والمتعارف عليه، فأغلب الطبعات الأجنبية لمؤلفاته كان هو الذى يقوم بكتاباتها باللغة الإنجليزية ويتولى آخرون ترجمتها إلى العربية! فطوال سنوات المنع والحظر، كانت كتب الأستاذ تطبع وتصدر من لندن ونيويورك، من باريس وطوكيو، من مدريد وروما، وغيرها من القارات وفى نفس الوقت كانت هناك طبعة عربية لهذه الكتب تخرج إلى طلابها من خارج القاهرة. ويشرح الأستاذ فى مقدمة كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل» تفاصيل تلك العلاقة العكسية قائلا: «كذلك فإن ترجمة هذه الطبعة وتقديمها إلى القارئ العربى كان يقوم بهما غيرى، وكنت أقول لنفسى وللسائلين (إنه يصعب على كتابة الكتاب مرتين) مرة باللغة الإنجليزية للنشر الدولى ومرة باللغة العربية، خصوصا وقد وجدت أننى عندما أتعرض لترجمة أعمالى إلى العربية لا أكتفى بالترجمة، وإنما تدفعنى اهتمامات القارئ العربى إلى الأبعد بالزيادة وإلى الأوسع بالتفصيل، وذلك يجعل الكتاب الواحد بالفعل كتابين «. ويستطرد الأستاذ قائلا: « لقد شجعنى على ترك مهمة الترجمة إلى العربية لغيرى، أن مترجمين مقتدرين تفضلوا وأعطوا لأعمالى من جهدهم ما يكفيها وأكثر، فعلى سبيل المثال قام الأستاذ محمد حقى، زميلى بالأهرام وقتها، على ترجمة كتاب «وثائق القاهرة «، كما قام الصحفى اللبنانى الكفء الأستاذ سمير عطا الله على ترجمة كتاب «الطريق إلى رمضان «، ثم قام الصديق العالم الدكتور عبد الوهاب المسيرى على ترجمة كتاب «مدافع آية الله»، وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء كتاب (خريف الغضب)، ونظرا لحساسية موضوعه فقد آثرت ترجمته لنفسى وبنفسى إلى اللغة العربية ولم يخطر ببالى أننى بذلك أرسيت سابقة لم أعد أستطيع التخلى عنها أمام القارئ العربى. وأغرانى على ذلك أكثر أن كتبى رفع عنها المنع والحظر فى مصر، وأصبحت مطبوعة منشورة فيها منذ سنة 1985. ومنذ ذلك الحين صدرت لى كتب عديدة كان كل واحد منها فى واقع الأمر كتابين: طبعة إنجليزية هى الأصل لكل الترجمات، وطبعة عربية أقوم عليها بنفسى، ويتسع مجالها وتزيد تفاصيلها وتلتحق بها وثائقها، حتى يكاد الكتاب العربى أن يصبح بالفعل شيئا مختلفا عن الأصل الإنجليزى، وإن بقى الجوهر والسياق والاتجاه واحدا فى الحالتين «. وإذا كان أسلوبى هو أنا هو شخصيتى، فإن هيكل بذلك كان هو رسول التعارف بينه وبين القارئ الغربى دون وسطاء .
الاهتمام بهيكل عبر الحدود دخل حيز الدراسات الأكاديمية والمؤلفات الجامعية التى بلغت حوالى سبعة عشر مؤلفا، ما بين رسالة دكتوراة وماجستير فى جامعتى هارفارد والسوربون، لعل أهمها رسالة ماجستير فى جامعة هارفارد مسجلة عن الإضافات التى قام بها الأستاذ فى تطويع اللغة العربية للمصطلحات السياسية فى العصر الحديث، مثل مصطلح (التصاعد). ويحرص الأستاذ على قراءة تلك الرسائل الجامعية بعناية فائقة واهتمام بالغ، لأنه يعتبرها أعمالا جادة استغرقت من كاتبها الوقت وتعمقت فى البحث، فضلا عن أنها بلا هوى مما يجعله يستفيد منها خلافا للكتابات الصحفية التى يحتفظ بها بمكتبه تحت بند « قراءات مؤجلة». و تُعد شهادة السير ستيفن رانسيمان عن الأستاذ مرآة تعكس جانبا من صورته لدى النخبة المثقفة الغربية، وتأكيدا أيضا على العلاقة التفاعلية كأنها تجديف فى اتجاهين بهذا المنحنى على نهر حياة الأستاذ. فعندما صدر أول كتاب من مجموعة «حرب الثلاثين سنة « تلقى الأستاذ خطابا من السير ستيفن رانسيمان أستاذ التاريخ الأشهر الذى حقق لنفسه مكانة فريدة، حين جلس على كرسى التاريخ فى جامعتى لامبردج وأوكسفورد برغم المنافسة التقليدية بين الجامعتين . جاء خطاب السير رانسيمان إلى الأستاذ مع السفير نديم دمشقية الذى كان لسنوات طويلة سفيرا للبنان، وعميدا للسلك السياسى العربى فى لندن وجمعته بالأستاذ علاقة صداقة. وبينما كان نديم دمشقية فى زيارة لجامعة أوكسفورد التقى بإحدى المناسبات السير ستيفن رانسيمان وجده يحدثه عن كتاب الأستاذ الذى فرغ من قراءته، فأخبره السفير نديم دمشقية. عن أنه والأستاذ أصدقاء عمر، فما كان من رانسيمان إلا أن رجاه أن يكون رسولا يحمل خطابا منه إلى الأستاذ ومعه هدية يعتز بها الأستاذ ووضعها فى مكتبته، ألا وهى دراسته العظيمة التى تقع فى ثلاثة أجزاء عن «الحروب الصليبية «والتى تعتبر بحق أهم ما كتب عن هذه الحروب التى كانت واحدة من المعالم البارزة فى التاريخ الإنسانى .
كان خطاب السير ستيفن رانسيمان إلى الأستاذ بالغ الرقة، فياضا فى كرمه على حد وصف الأستاذ له، وجاءت سطوره على النحو التالى « لقد فرغت قبل أيام من قراءة كتابك الأخير، وكنت أبحث عن وسيلة لاتصل بك، ولسعادتى قابلت السفير دمشقية ومن خلال حديثى معه عرفت أنكما أصدقاء .وقد بعثت إليك معه بكتابى عن الحروب الصليبية، ولست أعرف إذا كنت قد اطلعت عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا أظنك تمانع أن تكون لديك نسخة مكررة منه، كتب لك مؤلفه عليها إهداء بخطه تحية لك .إننى قرأت كتابك وتصورت كم كان يمكن أن يختلف كتابى، وكتب كثيرين من الذين عانوا كتابة التاريخ غيرى، لو أنه أتيحت لنا جميعا رواية شاهد عيان عاش وقائع الأحداث التى نتعرض لها ثم فعل مثلما فعلت أنت وسجلت لنا ما رأى».
ويستطرد السير رانسيمان قائلا: «لا أخفى عليك أننى أحسدك على تجربتك التى أعطتك الفرصة لتعيش التاريخ وتكتب عنه أيضا .فهناك قول شائع لعلك تتذكره وهو يقول (إن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون ) بمعنى أننا نسمع روايات عما جرى من وقائعه، منقولة لنا بالسماع والتواتر عن هذا أو ذاك من الناس، ومعظمها مكتوبة بأثر رجعى يخلط الوهم بالحقيقة إلى درجة تتركنا مع نوع من الفولكلور الأسطورى يعذبنا كثيرا فرزه، إذا كان ذلك الفرز ممكنا على الإطلاق! وصحيح أننا نصادف فى بعض المرات وثائق مكتوبة، لكننا نجد أنفسنا حائرين أمامها لا نستطيع أن نُقدر بالضبط أصالتها وظروفها ومدى تعبير ما فيها عن الواقع كما جرى. ولقد كان ما أثار اهتمامى فى تجربتك، هو أن التاريخ عندك له آذان وله أيضا عيون وهذه تجربة أتمنى لو ناقشتها معك إذا خطر لك يوم أن تعود إلى إكسفورد .»
وقد رد عليه الأستاذ برسالة شكر له فضله، معتبرا إياه قد تكرم بنسب ما يكتبه إلى علم التاريخ وهو شرف رأى الأستاذ أنه لا يستحقه وفق نص رسالته التى ورد بها « فقد كنت ولا أزال حتى الآن كاتبا وصحفيا همومه كلها فى الحاضر والمستقبل وليست فى الأمس وما قبله ومن ثم فهو قارئ للتاريخ، وليس كاتبا له وقصارى ما أطمح إليه مما أكتبه عن (حرب الثلاثين عاما) هو المشاركة مع كثيرين غيرى فى تنشيط ذاكرة الأمة «.
أما علاقته بالساسة والرؤساء وصناع القرار فى أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، فقد خرجت عن نطاق العلاقة التقليدية بين الصحفى والمصدر بالشكل المتعارف عليه، بحيث توحى وتبوح وقائع غير قليلة بأنها أقرب إلى علاقة الندية والصداقة بكل ما يستتبعه ذلك من ديمومة التواصل الإنسانى الذى يتجاوز اللقاءات والاتصالات الصحفية العابرة، والمجاملات المتبادلة من منطلق التقدير الذاتى والاحترام العميق بين طرفيها وليس لدواعى مهنية بحتة، وليس أدل على ذلك من الإهداء الذى كتبه الرئيس الفرنسى الراحل « فرانسوا ميتران» بخط يده وتوقيعه على آخر جزء صدر من مذكراته، قال فيه ما ترجمته الحرفية «إلى محمد هيكل تعبيرا عن الصداقة والاحترام أقدم لك هذا الكتاب، آملا أن تجد فيه مجالات لقاءات مشتركة بيننا».
وتمنى الأستاذ أن يهديه النسخة الأولى من كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل « من الطبعة الفرنسية، لكنه لسوء الحظ –وفق تعبير الأستاذ - كان قد غادر دنيانا قبل صدورها وفلم يتح للأستاذ أن يبادله كتابا بكتاب كما حدث مرات قبل ذلك فقد حكمت المقادير فوق كل الأمانى وسبقت . صورة قلمية أخرى رسمها له الكاتب البريطانى روبرت فيسك فى صحيفة «الإندبندنت « البريطانية توطئة لحوار دار بينهما فى أعقاب ثورة 25 يناير مباشرة حيث نُشر فى 15 من فبراير 2011وكتب فيسك عن هيكل قائلا « إنه عميد الصحافة العربية، مقاتل مخضرم وربما أهم مؤرخ وشاهد عيان لتاريخ مصر المعاصر، إنه الرمز، ولقد بدا صوته لاذعا وعقله متقدا، فرغم شيخوخته فإنه يحتفظ بطاقة الشباب وحيوته ولم يفقد لسانه عذوبة البلاغة أبدا». فهيكل حالة فريدة فى تاريخ الصحافة العربية فعلى حد قوله لحظة مغادرته «الأهرام» فى عهد السادات « إنه قد يفقد مكانه لكن أحدا لا يمكن أن ينتزع منه مكانته ومصادره « وقد تبوأ هيكل مكانة خاصة جدا إلى حد أنه أصبح « مصدرا « بحد ذاته .. أصبح الجورنالجي المسافر في بلاط صاحبة الجلالة.
تغريدات هيكل
اعتاد الأستاذ علي استهلال فصول مؤلفاته بفقرة بالغة الدلالة أشبه «بتغريدات» اليوم، مستبقا بذلك كافة وسائل التواصل الاجتماعي، فلننصت معا لرنين بعضها: الاهتمام بالسياسة فكرا او عملا يقتضي قراءة التاريخ أولا، لأن الذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالا طول عمرهم. وقائع التاريخ الكبري عائمات جليد طرفها ظاهر فوق الماء وكتلتها الرئيسية تحت سطحه، ومن يريد استكشافها عليه أن يغوص! إذا كان من الخطأ تصوير التاريخ وكأنه مؤامرة،فالأشد تورطا في الخطأ تصويره وكأنه مصادفة. من يملك القوة يملك الحقيقة والمنتصرون هم الذين يصنعون التاريخ ويكتبونه أيضا. لابد أن تكون أحلام الأمم حساب إرادات.. وإذا لم تكن تحولت الأحلام إلي كوابيس. ضباب الحرب عملية لا تقل أهمية عن ضربة الحرب. فمن المهم أن تجعل عدوك قبل اللحظة الحاسمة في حالة ارتباك تتزاحم فيها الأمور عليه حتي إذا جاءته الضربة في لحظة الارتباك كان محتملا ان تصبح قاضية. الحروب تدور في مجال السياسة، ومشاهدها الأخيرة فقط هي التي تنتقل إلي ميادين القتال! السياسة إنسانية، يتصدى لها بشر,ويفكر في أمورها بشر ويدير حركتها بشر، وبالتالي فإن وقائعها مجال لكل ما يعتري البشر من كمال ونقص، من قوة وضعف..حتى العواطف والعقد. أسهل الاختيارات هو موقف التبعية وأصعبها موقف الاستقلال، موقف التبعية اختيار مريح مرة واحدة طول العمر وموقف الاستقلال اختيار مرهق كل يوم إلي آخر العمر .
خريف المرض في حياة الأستاذ
هيكل موهبة متقدة تأبي أن تشيخ كأنه يحقن قريحته الصحفية «بالبوتكس «، أحبار الصحافة تسري بعروقه فتصبغ دماءه بفصيلة نادرة جدا ليس لها مثيل بالعالم،ظل محتفظا باللياقة الذهنية أمام زحف الوهن لجسده، ألمت به أزمات صحية عديدة في السنوات الأخيرة لكنه يتعامل مع المرض بكبرياء وكتمان باعتباره شأن شخصي كحياته التي يقول عنها «أعتقد أن حياة أي انسان ليست سيناريو معلق، خصوصا إذا كان مثلي فربما كان التناول أدق بعيون أخري «. قد تعثر علي لمحات عن علاقة هيكل بالمرض في خضم أحد كتبه لكن ذكرها يأتي في معرض الحديث عن السياسة وليس بغرض البوح بألم خاص، علي نحو ما روي في كتابه «مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان «أنه تعرض سنة 1986 لمشكلة صحية وجاءه الدكتور»عبد الجليل مصطفي»وأبدي رأيه بأنه في حاجة إلي إجراء فحص طبي علي القلب وربما يحتاج إلي تغيير شريان أو اثنين من شرايين القلب واقترح عليه أن يذهب إلي «هيوستن -تكساس «حيث أشهر مراكز جراحات القلب. لكنه سافر إلي لندن لاختبار «بالقسطرة « حضره الدكتور مجدي يعقوب، وكان هو أول من دخل علي الأستاذ يقول له إنه يتابع بنفسه الفحص ورأيه المبدئي أن كل شيء علي ما يرام لكنه سوف يمر عليه بعد دراسة كل الصور في المساء في فندق «كلاريدج «ليحدثه في التفاصيل، وزاره بالفعل وقضي معه أكثر من ساعة. ثم عاد الأستاذ إلي الوطن وقد استغني عن الرحلة إلي «هيوستين» بعد أن زال داعي السفر إليها والقلق . والقلق الآن يحلق كالطير الشريد فوق فراش الأستاذ، تتردد في آفاق حجرته أصداء دعوات الملايين له.