- فى الوصول إلى الناس لكنها كالحريق إذا وصلت اكتسحت
- تعرفت إلى حسن فتحى فاكتشفت أننى فى حضرة أحد البنائين العظام على مر التاريخ
جاءنى صوته من بعيد، كان واهنا على نحو، يعكس ما تركه الزمن من أثر، فى كاتب أصدر ما يقرب من عشرين كتابا، بين القصة والرواية والشعر والمسرح، كان واهنا على نحو يعكس مرضا مباغتا، أخذه على حين غرة، دون أن يجد أحدا حوله من الأدباء والكتاب، تذكرت أن المرة الأخيرة التى التقيت فيها «صلاح والي» كانت فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، فى إحدى دوراته، وكان بصحبته ابنه «أنس» الطالب الجامعى وقتها، هذا اللقاء العابر أحيته وسائط التواصل الاجتماعي، فتعرفت إلى «أنس والي» ثانية، ودار الحديث عن الأب الذى تعرض لمرض مفاجئ، فلمعت الفكرة بأن أترك هذه المساحة للابن، يحاور عبرها الأب، خصوصا أنه تشرب حرفة الكتابة منه. ⢴ يقول أنس والي: أتأمل رواية»ذكريات المستقبل» الصادرة حديث الصلاح والي،وهي روايته العاشرة من بين عشرين إصدارا، ما بين شعر ورواية ومسرح شعري،وإسهامات عديدة في حقل الكتابة التي مازالت تستعصي علي، ومازلت أراوح مكاني في روايتي الأولي، وأقول لنفسي: من غير أبي يدلني علي الطريق العصي؟ ذهبت إليه حاملا كل تساؤلاتي، عماهية الكتابة وعن رؤيته وخبرته معها، وجلست أكتب خلفه (تعاليم أبي وتعليمه لي) علها تهديني وتهدي غيري إلي الكتابة الحقيقية. هنا يقول صلاح والي: الكتابة شكل من أشكال التعبير المرضي عن العالم، ومباراة الكاتب مع نفسه حتى يكون إنسانا في الصرامة والتعبيرالصريح عن مشكلات العالم، مستخدما تقنيات الكتابة الحديثة، ضاربا عرض الحائط بالأساليب التى عفا عليها الزمن وتركها وسار بعيدا، فمهما تطورت تقنيات الكتابة من ماكينات الآلة الكاتبة والكمبيوتر، يبقى المجد للورقة والقلم، والتسجيل للدماغ وتنشيط الذاكرة، والتعامل مع المنتج الكتابى كطفل حي، ولابد أن تكون واعيا بهندسة الكتابة ومتابعات النص والدخول والخروج من وإلى الفقرة ومتابعة الانسجام المزاجي، فالكتابة أولا وأخيرا لحظة استمتاع لا تضاهيها لحظة أخرى، لأنك تستمتع برؤية الخلق الأول. لا أستعمل مذكرات وملاحق لكن إذا انطلقت لحظة الفيض فدائما ما تكون مع فيروز أو غناء عائشة الخياطة، أنا كالجمل الصبور أتحمل عوارض الكتابة بنفس راضية منتبها إلى هندسة البناء الروائي، ليس لى مكان معين أو عادات معينة إلا شرب القهوة وسماع فيروز، ولذلك فى كثير من الأحيان تجد فيروز مبثوثة فى رواياتي، الكتابة الجيدة لا تحتاج إلى من يذكيها، قد تتأخر فى الوصول إلى الناس، لكنها كالحريق إذا وصلت اكتسحت، قد لا أكون صبورا عندما يحين الحين، لكن قبل ذلك أتحلى بالصبر كاذبا، حتى تضطرنى نقسى إلى الرحيل، ليس عندى شيء أقدمه للمستهلك، عليه أن يقنع بما فى الإناء من العسل، أنا راض فهل أنت راض؟ تلك مشكلتك أنت إذا لم تكن راضيا. عندما تكتب بطريقة مختلفة (مثلا) تأخذ قطاعا رأسيا فى الحياة لشخص ما، وتبتعد عن الكتابة والحوار فى خط مستقيم، فتكتشف أن العالم حزين، لهذا قررت أن أزيد أحزان العالم، وأكتب كل رواية بشكل مختلف،يتناسب مع موضوعها، من خلال الكتابة تزداد خبرة، وتستطيع تمييز الجيد من الخبيث، وتصل إلى الإشارة أو الصمت، حتى ترحل صامتا، فالكتابة أشغال شاقة مؤبدة، لكنها جميلة، فأنت كل يوم فى خلق جديد. رجل عجوز فى «المجلة» كانت مجلة «المجلة» تصدر من شارع عبد الخالق ثروت، فذهبت إلى هناك لنشر قصيدة، فلم أجد إلا رجلا عجوزا، غارقا فى روب قديم فسلمت عليه، فأخبرنى بأن الجميع غادروا، ثم سألنى هل يمكن أن يساعدنى فى شيء؟ فأخبرته بأننى أحضرت قصيدة للمجلة؟ فقال: نسمع، لكن انتظر، حتى أعد لك الشاي، فقلت له: قهوة لو سمحت، فابتسم، كنت لا أعرف هذا الرجل الكريم، وعندما سمعنى سكت، ثم سألنى عن كل لفظة، وكنت أظنه معجبا، فتحولت القصيدة بالسماع إلى ورقة مكتوبة بلغة لا يعرفها أحد، ثم قام كأنه أنجز شغله، وقال: نتوكل على الله، واتجه ناحية الباب، وخرجنا بعد أن خلع الروب، ولبس الجاكت، واتخذنا طريقنا فى الشارع، وضعت القصيدة فى صندوق قمامة، فتغاضى عن رؤيتي، وشبح ابتسامة يعلو وجهه، ثم أمسك بيدى جيدا، وقال: أراك غدا أمام معهد الموسيقى العربية. ذهبت إلى هناك، رأيت الرجل يأتى من داخل المبنى، ويقول: اذهب إلى شئون الطلبة لتريهم الإيصال، وتقيد اسمك وتأتي، وقد حدث، فعرفت أن الأستاذ لا يعرف اسمي، فسألت عنه، فعرفت أنه يحيى حقى (أنشودة البساطة) فرحت جدا، لكن كيف أعبر عن شكري، قال لعميد المعهد: لا نريده أن يعزف، لكن يميز هذه الطبول، وما الفرق بينها فقط، واكتشفت أنه قام بدفع سبعة جنيهات مصاريف المعهد، وشكرته، فضحك، واكتشفت أنه أكثر جمالا، وصار روحى الخالدة، صار شيخى فى طريقة القص، وعكفت على أنشودة البساطة أحل أسرارها. بدأت رحلتى مع الصوت، وعلاقته بالشكل، كنت غارقا فى السماع حتى انتهاء العام الدراسي، فقمت بدفع مصاريف العام الدراسي، وكنت قد دخلت هذا العالم البهيج، وبدأت السير وحدى مابين الركض والمشى (هذه حالات الفهم) وتغيرت نظرتى للأشياء، وعرفت قانون كل شيء، أو هكذا توهمت، واستمر العام حتى وجدت أن أسلوبى فى اختيار الكتب قد تغير، وكذلك فى الفهم والأكل، وتعرفت إلى شاب فنان تشكيلى (ثروت فخري) أعاد ضبط كل شيء، بجوار شروحه غير المتعمدة لربطى بالفن التشكيلي. وكرت الأيام وتعرفت إلى سامى خشبة ابن العظيم درينى خشبة مترجم الحضارة الإغريقية، الذى كان مشرفا على سلسلة مختارات فصول الذى اختار روايتى «عائشة الخياطة» ليقدمها بدراسة مطولة عن العمل، ثم اختار أبرز جزء ووضعه على الغلاف، وتعرفت إلى الدكتور عبد القادر القط، الذى أعاد لى الاهتمام بالزينة ومشاتلها، وهى دراستي، وكان يعرض على كل أسبوع صورة لزهرة، فأقول له اسمها العلمى وموعد التزهير، والألوان وطريقة التكاثر، وهناك أيضا الرجل الذى اعتبرنى ابنه «عبد الرحمن فهمي» الذى كان ينشر لى تقريبا فى كل عدد، ثم أخذ منى مجموعة من القصائد، نشر منها ما يحلو له، ثم اختار مجموعة أخرى وأعطاها للدكتور أحمد درويش، ليكتب دراسة عنها، وصدر ديوان «تداعيات العشق والغربة» عن سلسلة «إشراقات أدبية» وهكذا عرفت الهيئة المصرية العامة للكتاب، وظننت أننى اكتشفت دروبها، لكن هيهات لابن القرية معرفة أحشاء المدينة، وبدأت رحلتى المقدسة مع الحرف والكتابة، خاصة بداية معرفتى بأن كل حرف له دلاله وجماله. من الأشخاص الرائعين الذين تعرفت إليهم الصديق والكاتب محمد مستجاب، هذا الرجل الذى علمني،وأفادنى فى عملي، هذا الرائع الذى ذهب لاستخراج تصريح دفن لطه حسين، وكان الشهداء فى معارك أكتوبر 1973 يلزمهم التصريح أيضا، وعندما وصل إلى الشباك قال: أريد تصريح دفن للدكتور طه حسين، فقال له الموظف: اسمه إيه كاملا؟ قال له: ألا تعرف عميد الأدب العربى طه حسين؟ فقال: يا عم طه حسين إيه؟ فقال مستجاب: طه حسين عبد العزيز، وخرج التصريح، ودفن العميد بهذا الاسم. محمد مستجاب فرض ذوقه على سكان حى أكاديمية الفنون بالهرم، حيث كان يسكن، فكانوا يشاهدونه وهو يذهب إلى الأوبرا وحفلات الموسيقى، وعلم أبناء الحى اقتناء الكتب ثم مجلة “العربي”التى كان يكتب فيها مقالا شهريا، هذا الرجل كان أحد عمال السد العالي، وعندما قام السادات بتفكيك هيئة السد، تم توزيع مستجاب، ليعمل فى مجمع الخالدين كفراش أو موظف، فكان يرى طه حسين والدكتور إبراهيم مدكور يوميا، وعندما كتب وحيدته رواية “فصول من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ” أفرد له صلاح عبد الصبور صفحات مجلة “الكاتب” لينشر فصول الرواية شهريا، وحازت على شهرة واسعة، وأخذ عنها جائزة الدولة التشجيعية. الأماكن أذكر رحلتى فى القاهرة وكنت قد اخترت حى مصر القديمة مكانا، فاكتشفت أن مصر القديمة تمتد من مجرى العيون حتى آخر العمران القاهري، بما فى ذلك المدافن والبيوت الرائعة من أيام المماليك وكل البشر الذين سكنوا مصر، كانت الدنيا صفار شمس، وكنا أنهينا دفن واحدة، كانت وحيدة، من عباد الله معدمى الأهل، فسرنا معهم أهلا، ما هؤلاء الأهل الذين لا يعرفون بعضهم بعضا؟ بعد إنهاء الدفن جلسنا فى ظل المقابر، وبدأ التعارف، تعرفت إلى حسن فتحي، وكان من سكان المنطقة، فاكتشفت أننى فى حضرة واحد من البنائين العظام على مر التاريخ، جلست مؤدبا فى حضرة الجلال والجمال، وتواصلت رحلاتنا للتعرف إلى ترب الخفير، وبقايا مصر الفرعونية، والإسلامية والقبطية، بما فى ذلك المعمار والزخارف والنقوش وطرق البناء، وحاجة المصريين للبناء بهذه الطريقة وليس غيرها، ففى كل فصل تتغير طريقة البناء والمواد المستعملة، حسب درجات الحرارة، حتى الزخارف وقوة الاعتقاد فى تأثير الأساطير والعوالم الأخرى فى حياة البشر، الأماكن بشر تتنفس الناس، وليس لنا اختيار ولا قوة ولا حول ولا طول، كل شيء بيد المكان، حتى الناس والذكريات، عندما تريد أن تقول شيئا، فهى تذكرك كطائف يمر، يسحب وراءه حبل الذكريات!