رشا عامر فى مقال له نشرته صحيفة «لوفينجتن بوست» فى طبعتها الفرنسية تساءل المؤرخ، والكاتب الفرنسى إلكسندر إدلر عن مستقبل الشرق الأوسط.. يقول إدلر إن مجرد النظر بالعين المجردة للمنطقة العربية يكشف لنا على الفور أننا مقبلون على منطقة مليئة بالعواصف بشكل لم يسبق له مثيل بطريقة من شأنها قلب جميع أوراق اللعبة وإعادة توزيعها. فظاهريا يمكن القول بأن ظهور داعش تسبب فى صدمة مازالت تقوض حتى الآن الدول الكبرى، لكن إذا نظرنا إليها من قريب فإنه يمكن القول إن الحركات الأصولية ترسخت من يونيو 2013 المشئوم، حيث انقلبت الموازين فى كل من مصر وإيران.. ننشرالمقال دون تدخل منا، لا يعنى هذا موافقة المجلة على كل ما جاء فيه، وإنما نهدف فى الأساس إلى إثراء النقاش والاطلاع على نظرة الغرب لمنطقتنا ومشاكلها. بدأت الهيمنة الخفية للقوى الإسلامية منذ بداية أعوام الثمانينيات والتى امتدت من المغرب وحتى السند فى باكستان. وفى إيران كانت القوى الإسلامية الراغبة فى إقامة تحالف قوى مع العالم العربى بشكل عام ومع الإخوان المسلمين فى مصر بشكل خاص تهيمن على الجدل الإيديولوجى. وقد شهد هذا التوجه الشرقى والذى اعترضته عدة عقبات خشية إحياء الليبرالية الحقيقية للسياسة الإيرانية تحديدا عام 1997- شهد مزيدا من الارتباك إبان رئاسة أحمدى نجاد. وكان سباق الأسلحة النووية فى إيران من شأنه تعزيز الهيمنة الإسلامية لدرجة تعاطف وجهات النظر الإقليمية مع أهداف إيران الإستراتيجية المضادة لإسرائيل. ويمكن القول صراحة أن العالم العربى لم يرفض بشكل صريح وجود قوى الإسلام السياسى. وعلى الرغم من الحروب الأهلية فى الجزائر بعد نجاح القوى الليبرالية عام 1998 كان يجب على الجميع التعامل مع الإسلام السياسى فى كل مكان، خصوصا فى جزائر بوتفليقة حيث كانوا يسعون إلى إضعاف الجيش فيها. ومنذ عام 2006 منحت الانتخابات الفلسطينية أغلبية بلا منازع لحزب الإخوان المسلمين المحلى لديها والمسمى ب"حماس" وفى ظل كل هذه الظروف تحول الربيع العربى منطقيا وتاريخيا لصالح هذه التيارات الإسلامية، وبرغم ذلك شكل مفاجأة غير مسبوقة فى الواقع لتظهر مظاهر عدم قدرة الحركات الإسلامية العربية على ممارسة أى شكل من أشكال السلطة. وبعد نجاح المغرب فى ترويض عنف الجماعات المتشددة فإن هذه الجماعات فعلت فى ليبيا ما فعلته بالضبط فى سوريا من حيث انعدام كفاءتهم ووحشيتهم الطائفية وافتقارهم الكلى لمعنى كلمة سياسة. وهو ما جعل بشار الأسد يرتعد من فكرة الربيع العربى بعد أن وجد نفسه على قمة ائتلاف تعددى فى حين خسر الإخوان المسلمون هناك وبسرعة رهيبة وبسبب طائفيتهم كل دعمهم الآتى من اليسار والعلمانيين السوريين.. ناهينا عن الأكراد والدروز السوريين الموجودين بالفعل فى السلطة السورية. ولكن لم يكن أحد يتصور أن ينقلب الشعب المصرى فى غضون عامين فقط ضد الإخوان المسلمين بعدما شعر منهم الاستبداد والفوضى وانعدام الخبرة واضطهاد الأقباط.. ويتدخل الجيش لأول مرة فى إحدى دول الشرق الأوسط بنزول أكثر من عشرة ملايين إلى الشوارع فى القاهرة وحدها، ولولا هذا الدعم الشعبى لما استطاع الجيش المصرى الانتصار. لكن لم يلق نجاح هذا الجيش المصرى بظلاله على كل الاتجاهات سواء فى برقة سوريا أو اللواء خليفة حفتر القريب جدا من القاهرة، وبالطبع فى تونس وانتخاباتها الحرة التى أعادت الإخوان المسلمين إلى بعض النظام دون أدنى عنف فى الشوارع. ويأتى الانقلاب الرهيب والأكثر دراماتيكية وهو انقلاب سعودى سعى إليه النظام الملكى لتحقيق استقراره فى مقعده خشية أن يصل إلى نهايته الطبيعية، حيث رمى كل ثقله فى دعم الجيش المصرى والرئيس السيسى، بل وعمدت السعودية لأول مرة إلى قطع صلاتها القوية بالإخوان المسلمين. فقد خشى آل سعود دوما الصعود الإيديولوجى والسياسى لهذا الحزب الذى كان صداه سيتردد فى أرجاء البحر الأحمر على حساب السلطة الحاكمة المهيمنة فى السعودية، لذلك فقد قرر التيار الحاكم فى السعودية التحالف إستراتيجيا مع الحداثة العربية حتى ولو كان أوباما متعاطفا على الأقل لفظيا مع الإخوان المسلمين فى مصر. خلاصة القول، إنه فى هذه المنطقة من العالم كانت توجد قوتان تاريخيتان كبيرتان وحقيقيتان هما مصر وإيران واللتان تشكلان السنة والشيعة، وقد واجهت هاتان الدولتان وبالتزامن نفس الاختيار وهو رفض أى تحالف مع الإسلام السياسى. ومن المنتظر أن يحدث تقارب بين القاهرةوطهران فى القريب العاجل حول القضية السورية، حيث سيمتنع الجيش المصرى عن تقديم أى دعم للقوات المناهضة للأسد فى نفس اللحظة التى ستبقى فيها إيران على تدخلها لصالح الأسد، وهنا يكمن المشهد الأول للزلزال الإقليمى الذى سيشهده العالم. لأن الظاهرة الحالية فى الاختلاف بين السنة والشيعة غير واضحة المعالم، وهى ظاهرة عرفت على مر التاريخ أوقات شد وجذب . فحتى فى أعوام 1970-1990 فإن الأصولية المصرية السعودية التى انبهرت بالأصولية فى خطب شباب الملالى الشيعة فى إيران، فضلا عن الطاقة المنبعثة من ثورة الخومينى قد ألهبت بدورها الإخوان المسلمين فى أنحاء العالم ولكن يأتى اليوم برفض تام وسريع للإسلام السياسى على يد المجتمعين المديين المصرى والمغربى واللذين تقاربا بسرعة مع عملية التصحيح القومية العابرة للمحور الشيعى من بيروت حتى طهران. ولكن لن تختف الخلافات والمنافسات طويلا، فالخطر لايزال كبيرا وقائما بالنسبة للرئيس السيسى فى مصر بتقاربها مع حكومة بشار الأسد السورية، كما أن الأرض لا تزال هشة جدا لكى تلعب المملكة السعودية لعبة مزدوجة بين عشية وضحاها وهى لعبة "التعصب – الأمريكى" والتى تبدو مناسبة لها حتى هذه اللحظة. ولكن ماذا يحدث فى العمق خلف محاولة إحياء الأصولية التى تسعى إليها داعش كما لو كانت فى تجربة فيزيائية؟ ببساطة لقد شكل مفهوم القومية العربية الذى دعا إليه ناصر فكرة الخليفة ولكن بمفهوم علمانى. لأن القومية العربية التى سعى إليها وجمعت حوله كل من مغرب بن بركة حتى شام البعث كانت تهدف إلى إزالة الحدود القديمة كما كان يدعو من يريدون إعادة إحياء الخلافة الإسلامية. فتنظيم القاعدة وداعش لا يتحدثون أبدا بصفتهم عرب لكن بصفتهم مسلمين، وعلى هذا فلا مكان للانتماء الوطنى. ولكن على الجانب الآخر هناك قوميات جديدة تستحضر روح القوميات الأوروبية الكبرى فى القرن التاسع عشر صراحة وبلا أى مواربة، وأولى هذه القوميات مصر التى تخوض بالفعل معارك على جميع جبهاتها سواء الليبية أو سيناء أو الجبهة الجنوبية. أما على الصعيد الجنوبى للقاهرة ونيلها وبعيدا عن ليبيا، فإن المغرب يستعد بلا شك للتقارب والتعاون الذى من شأنه إبعاد التيارات الإسلامية والانغماس فى مزيد من الحداثة بفضل النفوذ الفرنسى باعتبار أن المغرب لايزال دولة جديدة على الديمقراطية الدستورية. وأخيرا يأتى الشمال ممثلا فى إيران بهويتها الدينية والتى أصيبت بصدمة جراحية واسعة اسمها داعش. تبقى تركيا التى لا تزال تفترض وجود أوهام الخلافة العثمانية فيها، وحيث يوجد هيمنة سياسية على كل المدارس السنية فيها، وهى مدارس تتبع مذهب الإمام أبو حنيفة أى أنها معتدلة مثلها فى ذلك مثل سنة سوريا والعراق، وهو الأمر الذى يحقق توازن بين مع قوة إيران الجديدة، وذلك عن طريق عمل مصالحة مع الأكراد، الأمر الذى يعنى اعتراف تركيا بالقلية التركية لديها والبالغة 20 % من عدد السكان. وفى اللحظة الراهنة فإن حاصل ضرب كل هذه الأرقام ينطوى على وجوب ولادة "ثنائى تركى إيرانى"، فهذا التحالف القوى سيحقق للمنطقة استقرارا ملحوظا، حيث ستذوب الفوارق التركية - الإيرانية سريعا وستختلط الهويات..ف٪20 من الأتراك شيعة و20 % من الإيرانيين سنة. معنى هذا أن ربع الشعب التركى إيرانى وما يقارب من ثلث الشعب الإيرانى تركى. لكن فى مقابل ظهور هذه القوى العظمى الأولى يجب أن تجابهها قوى عظمى أخرى هى قوى مصرية سعودية أكثر قوة وصلابة بفضل الشعب المصرى الذى سيجد فى شواطئ الخليج العربى ما سيعزز حدوده ويعيد الاستقرار لهذا الكوكب. والواقع يشير إلى أن وراء سحب الفظائع السوداء الحاضرة فى سماء سوريا والعراق، فإن الواقع الفعلى يشير إلى اتفاق عملى بين القاهرةوطهران، وهو متروك للنمو تدريجيا بفرص التنمية الاقتصادية والديمقراطية. لكن حذار فهذه المصالحة النهائية من الحركات الإسلامية مع القيم العالمية والتى تظهر تدريجيا فى العالم بأسره ما هى إلا نتيجة إحساس باليأس. لكن ليس معنى ذلك فقدان الأمل، فالإخوان فى تونس عادوا إلى المشهد فى هدوء، والناخبون فى إيران قدموا ديمقراطية جيدة إبان ولاية روحانى للتصالح مع المجتمع الدولى، وعلى ذلك فإنه إذا كان علينا الاستفادة من التاريخ والتعلم منه، فلننظر إلى الشرق الأوسط نفسه وليس إلى قاطعى الرؤوس.