إحياء للذكرى الثلاثين للشاعر الكبير أمل دنقل وجدنا أن يتم ذلك من خلال شيء متميز، وهو عرض قصائد لم يسبق نشرها قبلا من بدايات شاعرنا الراحل وبخط يده، وهى قصائد حصلت عليها من أ. أنس دنقل شقيق الشاعر. وتطلعنا القصائد التى تعود لحقبة ستينيات القرن الماضى على بدايات الشاعر الكبير وسمات شعره، فهى ليست مجرد قواف تسترسل أو موسيقى تصدح، لكنها قبل هذا وبعده معان تتدافع وتتعانق فى حركة متسارعة معبرة عن الإنسان وأحلامه، أو الصدام بين الواقع والحلم، عبر حكاية سردية أو استعادة لحادثة تاريخية يعيد النظر فى وقائعها، يقلبها ويدرجها فى الواقع المعاش. وقد يلحظ القارئ لقصائد أمل تمردًا ورفضًا، وهذا شيء متوقع، فالطفولة القاسية حولته لإنسان رافض للسلطة، والشباب البائس زرع فيه التمرد.. فصار التمرد والرفض سمتى قصائده وبكائياته، بل ومشروعه الشعرى القائم على هدم الجدار، الذى يحول بينه وبين ذاته وأحلامه. الأطفال والخطيئة -1 قبيل الفجر الصمت يقترب جسم تمطى فى الفراش، والذراع يستفيق.. عجينة من اللهب بحر من اللهاث فى نهاية الطريق تثاءبت أمواجه، والريح تقرع النوافذ الرمادية الظل طفل يسأل عن اسم له، لكنه لم يستدل ومن طلاء الغرفة الملىء بالشقوق أفعى تطل تتلو صلاة كل أمسية لمن تقوم هذه المآذن السماوية وقد تدلت الحبال يابلال -من حدوة الهلال – وأنت فى أطرافها مشنوق والليل : سوق قام فى أنقاض سوق فى مسجد مزخرف، تسد بابه مناجل هيكل مصدور الموت أول الحياة، يولد الأطفال ميتين والريح فى التلال جنازة ترد عنها بابها المقبور حين تساقط كرات الثلج فى السفوح تجشأ الغراب لا صمت، لا كلام، لا نسيان، لا عذاب: كتابنا مفتوح جاء الأناس الميتون يحملون، أكفانهم، أطيارهم ليست إلى أعناقهم، يستفسرون: - ماذا أتى بنا إلى هنا؟! - أتت بكم امرأة خاطئة، نهودها دافئة، ولحمها معطر النكهة فلحمها عجينة من اللهب جاءت بكم بدون أب قد استدارت فى فراشها برهة عانقت الجدار قبلت وجهه : - يا أيها الجدار، لا تبح بما ترى ولا تقل عن الذين يولدون وغمغم الجدار: يا صديقتى الطفلة مات الذين يسألون .. ومرت الليلة فربما كان أبوكم الجدار ربما يكون.. -2 قبيل الموت قلب على الصليب من ذهب تجمدت عروقه، كذيل هرة محنطة من كان منكم دونما خطيئة فليشتر الخطيئة ولتطفىء الرياح كل الأعين المضيئة .. مسبحة فى يد شيخ ذي عباءة مخططة تساءلت حباتها: مْنَ الذى على الصليب؟ وابتعد الشيخ ولم يجب وأعين الطاووس فوق شرفة المغيب ترمقه بنظرة باردة، غامضة، وقانطة كف الغراب عن تجشؤه طار وحط فوق نهد مترع مقطوع نقر فيه نقرتين، ثم طار عائدًا لملجئه فى فمه زبيبة كقلب عصفور وديع .. توافدت مواكب بلا مناكب أرؤسهم معلقات بين أفخادهم المنفرة يعلق فى مؤخراتهم تراب المقبرة أهدابهم طالت كأنها جرائد النخيل كأنها سبائب الخيول والسهم شق نجمتين فى الذرى، وارتد ساقطًا على الرمل فجرّه سرب من النمل إخناتون فوق الكرنك من التاريخ القديم مهداة إلى السجين صاحب المصباح الأخضر المجد الوهمى .. تولى آمون جبين كابٍ وذراع يتدلى فلتسمع ياكرنك ما يعلنه إخناتون لم يصبح آمون إلهاً آمون صلاة لايدرى الشعب لمن تُرفع آمون طقوس لا تنفع ونذور وزكاة تدفع رب الأرباب ؛ .. خدر عنكب فى أعصاب الجيل فلتقشع ظل ملاءتك السوداء عن النيل كم ملَّ الناس السخرة من أجلك كم ملَّ الناس إلهًا مُلِّك فيما لايملك قد صاروا للرب النير : “آتون" يطل عليهم كل صباح يبذر وادى النيل دنانير الخصب يغمر كل الشعب بنور الحب ***** آتون ذو الألف ذراع يعطى، يعطى، يعطى، لا يأخذ غير الشكر الصاعد حبا آتون أكبر من أن يأخذ .. .. مالًا يجبى ورنا كهانك نحو الشمس فاحترقت أجفنهم بالنور ما عادت أعينهم تندس سيظل النور يعرى بؤرات البللور .. فليختبئوا فى الديجور كخفافيش سكنت ليل الكرنك ***** الكرنك مشروخ الهامة الكرنك صندوق قمامة الكرنك يلقى فى طيبة قيء الذل ياطيبة .. فى رئتيها ينخر سل يحكى أنك كنت عروسا يحكى أن النور يظل .. ..على شرفاتك مغروسا يحكى أن الكهنة فيها لهم الأرض بدون خراج يحكى أن الكاهن زنديق يسلب ما يحرس يحكى أن الكاهنة الحسناء تظل بدون زواج فالحق القدسى مقدس لكن الأعراس تولت يا طيبة العرس شموع مقلوبة ما عاد الرجس يظل الأرض المحبوبة ما عاد “حريحور" يتشهى تحت المعبد جسم نفرتيتي فلقد غنيت عن بركاته ما عاد يراقبها تمشى بإزار مفلوت قد هجرت طيبة تتبع إخناتون لاخيتاتون فليهجر «حريحور» صلواته ما عاد المعبد شيئا دون نفرتيتي أيصلى لإله كان يداهنه من أجل نفرتيتي موتى .. موتي ياصلوات المعبد موتي فنفرتيتي أضحت تعبد قرص الشمس واصدع .. وتصدع يا كرنك ما عاد الزيف يساند جنبك .. مات الهيكل وإلهك آمون لا ندرى ماذا يفعل أتراه فى مخدع إيزيس المسدل؟ يجرع كأسًا، يملأ كأساً ويلف التبغ بأوراق بتاح فانظر ياكرنك واسمع الليل عن البسطاء انزاح آتون يطل عليهم كل صباح يبذر وادى النيل دنانير الخصب يغمر كل الشعب بنور الحب ***** يا إخناتون من بعد مماتك يزحف هذا التنين يحجب قرص الشمس بأيد ويردد : آمون، آمون آمين ..آمين آمون يحفر اسمه فوق ظهور الشعب بسوط النقمة آمون ينفث سمه فلتلعق يا كرنك جرحك لكن: لن تكمل فرحك فلسوف تكل أياد حجبت قرص الشمس ولسوف تفيض الكأس ويعود إليهم .. إخناتون... قنا – يونيو 1960