في مساء الأحد الموافق 29 من آب ( أغسطس ) وصلنا إلى دمشق، قادمين من ميناء طرطوس، عبر باخرة انطلقت من مرفأ بيروت ، ضمن الدفعة العاشرة التي ضمت مايزيد على ستمائة مناضل ومقاتل فلسطيني وعربي، من بينهم القائد الراحل صلاح خلف “أبو إياد “ ورئيس تحرير مجلة الهدف التي تصدر عن الجبهة الشعبية، والفنانة الشهيرة نادية لطفي وآخرون. كان الخروج بتلك الطريقة قد جاء طبقا للاتفاق الذي تم في آب (أغسطس) 1982، والذي أسفر عن خروج المقاتلين والقادة والمكاتب في منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت خروجاً آمناً، بحضور قوات أمريكية وفرنسية وإيطالية .
وبعد وصولنا بما يقرب من أسبوعين، جاءت أنباء مذبحة صبرا وشاتيلا، وقد اسفرت عن استشهاد الآلاف من الأطفال والنساء والرجال، شيوخا وعجزة، من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين المقيمين في مخيمي صبرا وشاتيلا العزل من السلاح ، وجرت المذبحة الإجرامية بأيدٍ صهيونية تحت قيادة أرائيل شارون، وبمشاركة قوات الكتائب اللبنانية،وجيش لبنان الجنوبي العميل للكيان الصهيوني.
تلك المذبحة الوحشية أثارت استهجانا في صفوف الشعوب العربية والشعوب المحبة للسلام في العالم، لكن الغضب الأوسع والأكبر كان في وسط صفوف كل القادمين من لبنان،واعتبر البعض أن بعض من المسئولية تقع على القيادة الفلسطينية التي وافقت على اتفاق لا يضمن الأمن لعشرات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانين الذين كانوا بمثابة الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية العربية ، وربما كان هذا الغضب المتأجج بمثابة شرارةْ اسهمت فيما سمي بعد ذلك بانتفاضة حركة فتج ، وهي كانت في الواقع تمردا داخل الحركة، قاده أحد مؤسسي الحركة ( أبو صالح) نمر صالح المناضل الصلب، ومعه القائد العسكري العقيد سعيد موسى مراغة ( أبو موسى ) ورفيقه أبو خالد العملة، والمناضل أبو علي مهدي بسيسو.
كان هؤلاء من قادة مقاومة القوات الصهيونية الغازية ، ومن أشد المناهضين لخروج منظمة التحرير وقوات الثورة من لبنان.
إن مجزرة صبرا وشاتيلا تمثل حلقة في سلسلة طويلة من المجازر، كانت قد ارتكبتها العصابات الصهيونية بغرض احتلال الأراضي الفلسطينية، وإنشاء الكيان الصهيوني الغاصب، فقد قامت العصابات الصهيونية بدءاً من سنة 1937 وحتى عام 1948 (عام النكبة) بسلسلة من الأعمال الإرهابية، بغرض بث الرعب في أوساط الفلسطينيين، وترويع السكان الآمنين، لإجبارهم على إخلاء بيوتهم وترك أراضيهم وممتلكاتهم، وتشريدهم عن وطنهم ومدنهم وقراهم.
وقد توزعت هذه الأفعال الإجرامية بين مجازر القتل الجماعية، وزرع السيارات المفخخة والملغمة وسط الأسواق والتجمعات، أو نسف المباني والمقرات بالمتفجرات، أو إلقاء القنابل وفتح نيران البنادق على المارة، وهو ما خلّف آلاف الضحايا من المدنيين العزل دون أن يسلم من ذلك الأطفال والنساء والشيوخ، ووصل الإجرام الصهيوني حد بقر بطون الحوامل، والتمثيل بجثث الشهداء ، وعلى أنقاض هذه العصابات المجرمة نشأ هذا الكيان المحتل، الذي يتشدق اليوم بالديمقراطية والتحضر، وكثير من عناصر أو زعماء هذه العصابات وممن ساهموا في المجازر البشعة صاروا فيما بعد في الصف القيادي للكيان الصهيوني وحكومته وأحزابه السياسية.
إن الشعب الفلسطيني أبدا لم ترهبه تلك المجازر، بل تترسخ صلابته بالتمسك بأرضه، ويزداد إصراره على مقاومة العدو الغاصب بكل أشكال النضال، برغم كل محاولات القتل والتشريد ومجازر الإبادة الجماعية التي استخدمتها قوات الاحتلال بحق سكان المدن والقرى من الفلسطينيين، ومحاولات تشريدهم عن ديارهم آنذاك؛ إلاّ أنّ الشعب الفلسطيني صمد في وجه هذه الجرائم، ورفض الخنوع والخضوع لها.