هناك علاقة جدلية بين الإستراتيجيات والسياسات التنفيذية، وبينهما ما يسمى العمليات التعبوية. الأولى تعنى بتحديد الأهداف الكبرى التى يسعى طرف ما إلى تحقيقها بعد حين من الزمن، عادة ما تكون أهدافا عالية القيمة بعضها يدخل فى صميم الأحلام الكبرى، وهو حق مشروع فى أى إستراتيجية طموح. أما السياسات التنفيذية فهى الجانب العملى الذى يحقق تغيرات على الأرض بحيث تؤدى بعد فترة إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية تدريجيا. أما الجانب العملياتى فيتعلق بتعبئة الموارد والمؤيدين وخلق بؤر الارتكاز التى تنطلق منها السياسات التنفيذية. التعبير عن الأهداف الكبرى لا يعنى بالضرورة أنها قابلة للتحقيق، بل فقط هى موجهات للأطقم التنفيذية حتى يفعلوا ما يمكن فعله من أجل الوصول إلى تلك الأهداف وفقا للموارد المتاحة والتى يمكن تعبئتها. هذه التفرقة مهمة حتى يمكن الحكم العملى على ما وصفه وزير الخارجية الأمريكى بومبيو بأنها أعنف وأشد إستراتيجية أمريكية تجاه إيران، التى سعى من خلالها إلى التأكيد على أمرين متكاملين، أولهما خطورة السياسات الإيرانية سواء فى مجال التسليح خصوصا الصاروخى والخبرات النووية والامتداد الإقليمى فى عدد من الدول المجاورة، وعدم تحسين مستويات المعيشة للشعب الإيرانى. ثانيهما المطالب التى تراها الولاياتالمتحدة أساسية وواجبة التنفيذ من قبل إيران حتى يمكن لواشنطن لاحقا أن تعيد النظر فى العقوبات وربما تعيد العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وأن تسمح بعد ذلك للشركات الأمريكية بالتعامل مع إيران لتحسين أوضاعها الاقتصادية. الأمر على هذا النحو مزيج من العصا والجزرة. مشهد تخيلى أشد العقوبات وأقساها هى التعبير الذى استخدمه وزير الخارجية الأمريكية باعتبارها الوسيلة الرئيسية التى اعتمدتها بلاده حسب قرار الرئيس ترامب ليس فقط للضغط على إيران، وإنما أيضا الضغط على كل من يتعاون معها فى مجالات حيوية كالنفط والغاز وصناعة السيارات وشراء الطائرات المدنية والتعاملات المالية والتجارية بوجه عام. بهذا المعنى فإن العقوبات المشددة هى الوسيلة الرئيسية التى تعتمدها واشنطن من أجل إخضاع طهران لكى تقبل بجميع المطالب الاثنى عشر التى فصلها بومبيو، التى كل منها بحاجة إلى سياسات تنفيذية فى أكثر من مجال وأكثر من منظمة إقليمية ودولية، فضلا عن مدة زمنية لن تقل عن عدة سنوات. فعلى سبيل المثال فلو تصورنا جدلا أن إيران قبلت مطلب تفكيك جميع قدراتها النووية، وأعلنت عن كل مستندات برنامجها النووى، وقبلت تدمير معمل «أراك» للماء الثقيل، وتخلت عن قدراتها فى مجال التخصيب النووى، وقبلت أيضا أن يقوم ممثلو الوكالة الدولية بالدخول إلى أى موقع عسكرى أو مدنى للتأكد من التزامها بالمطلب الأمريكى على نحو مثالى، فكم من الزمن يحتاج العالم للوصول إلى اتفاقات فنية وتفصيلية بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية لتحقيق هذه الأمور، ثم كم من الزمن يحتاج العالم لكى يتأكد أن إيران انصاعت تماما لهذا المطلب وحسب؟ الجميع يعلم أن مثل تلك الأمور بجوانبها الفنية والسياسية تحتاج إلى سنوات وليس شهورا لوضعها فى إطار قابل للتنفيذ، ثم سنوات أخرى لمواكبة التنفيذ والتحقق من الالتزام الشفاف. يُفترض فى مثل هذا المشهد التخيلى أن العقوبات ستظل موجودة بل وستكون قابلة لمزيد من التشديد، وفى مثل هذا الموقف يظل التساؤل قائما هل يمكن أن يقبل شعب مثل هذا السيناريو، الذى ينطوى على إذلال ومهانة وبدون أن يكون له أى عائد؟ ما يقال عن هذا المشهد المُتخيل يمكن أن يُقال أيضا عن باقى المطالب، مثل وقف صناعة الصواريخ الباليستيية، وسحب القوات الإيرانية الرسمية أو القوات الرديفة كالحرس الثورى والباسيج ومجموعات الشيعة المسلحة والمنتشرة فى العراقوسوريا على وجه التحديد، ووقف المساعدات بأشكالها العسكرية والمالية والاقتصادية لحزب الله اللبنانى ولجماعة أنصار الله الحوثية فى اليمن، فكل هذه المجالات إن قبلت بها إيران ستكون بحاجة إلى اتفاقات مفصلة تجمع بين أكثر من طرف، بالإضافة إلى نظم تحقق لغرض الالتزام وأدوار للأمم المتحدة وقرارات من مجلس الأمن وهكذا، ثم يأتى السؤال الأكبر: هل يتصور أحد أن تعلن طهران فى وقت قريب ومن طرف واحد سحب قواتها من سوريا وفك أى علاقة مع حزب الله وجماعة أنصار الله الحوثية فى اليمن وتفكيك جميع الميليشيات التى دربتها وسلحتها ومولتها فى العراق وأفغانستان؟ كل ذلك وهى واقعة تحت تأثير العقوبات الاقتصادية ودون أن يكون هناك أفق لما بعد هذه الخطوات المتخيلة؟ ثم أين متغيرات السياسة الداخلية الإيرانية من كل هذه الخطوات التى تضرب فى الصميم تركيبة إيران السياسية والمؤسسية والفكرية؟ خبرات التاريخ خبرات التاريخ كله تقول أمرين بارزين ولا جدال فيهما؛ الأول أن العقوبات الاقتصادية وحدها قد تؤثر على الحالة الاقتصادية للبلد المعنى، ولكنها تفشل تماما فى تغيير سياسات النظام الحاكم أو تؤدى إلى تغيير النظام، بل أحيانا تؤدى إلى عكس غرضها. حالة كل من كوبا وكوريا الشمالية تثبتان هذه النتيجة جملة وتفصيلا. الأمر الثانى أن انصياع أية دولة لمطالب تعجيزية تتضمن تخليها عن جميع مقوماتها العسكرية والسياسية والأيديولوجية مرهون أساسا بهزيمة ساحقة بعد حرب ضروس. ما حدث مع ألمانيا النازية واليابان بعد قصفها القنابل النووية وكل بلدان المحور يؤكد هذا المعنى. الحرب والهزيمة عاملان رئيسيان فى إخضاع أية دولة. هذه الخبرات الإنسانية عبر التاريخ ليست بعيدة الصلة عن حالة إيران الراهنة، فبالرغم من كل المصاعب التى واجهتها فى السابق، والمؤكد أنها ستقابل أشد منها فى الزمن المقبل، فهى دولة تشعر بأنها فى حالة تمدد ولديها أصدقاء ومنافذ للتعاملات التجارية للنفط وجميع السلع، والمهم أن لديها قناعات دينية وسياسية بأن التاريخ أضفى عليها عبئا ومسئولية، خصوصا فى هزيمة الأعداء، وبالتالى فإن العقوبات المشددة كالتى تنذر بها واشنطن لن تكون السياسة المناسبة لتحقيق جميع الأهداف الكبرى والتعجيزية التى طرحها وزير الخارجية الأمريكي. والثابت هنا أن نجاعة هذه العقوبات مرتبطة أساسا بأن تكون عقوبات عامة يلتزم بها كل الدول، وتلك بدورها حالة مشكوك فيها، وللوصول إليها لابد من أن تقوم الولاياتالمتحدة بعمليات ضغط هائلة على عدد كبير من الدول التى لها مصالح كبرى مع إيران، ومن العسير أن تتخلى عنها بسهولة لمجرد أن توافق على الانضمام إلى القافلة الأمريكية. والمثل البارز هنا الصين والتى تتعامل مع إيران فى مجالات متعددة وحجم التجارة السنوية بينهما يفوق 60 مليار دولار، وروسيا ولديها مصالح مع إيران تقترب من 30 مليار دولار سنويا، فمن الذى يمكنه تعويض هذين البلدين عن هذه المصالح الكبرى، ناهيك عن الاعتبارات الإستراتيجية التى تجمع بين روسياوإيران فى أكثر من قضية إقليمية معقدة، وأبرزها القضية السورية، رغم وجود بعض الخلافات التفصيلية. هذه المصاعب تعنى أن يد الولاياتالمتحدة ليست مطلقة فى جذب العالم بأسره ليكون شريكا لها فى إخضاع إيران، وتعنى أيضا أن الأهداف الكبرى لأية إستراتيجية ليست بالضرورة قابلة للتحقق كما يتصورها أصحابها، وبعيدا عن حالات الحرب والهزيمة الساحقة، ستظل هناك حاجة إلى مفاوضات وإلى اتفاقات وإلى تنازلات متبادلة وإلى وثائق جديدة، ومادام أن الولاياتالمتحدة لن تدخل معترك المفاوضات مع إيران، ستظل الأهداف بعيدة تماما عن التحقق. ومع ذلك فمن المهم التذكير أن إيران ليست فى حالة تسمح لها بتجاهل المطالب الأمريكية تماما، أو النظر إلى العقوبات سواء شارك فيها عدد كبير من الدول أو عدد أصغر باعتبارها تحصيل حاصل. صحيح أن الجماعات والأحزاب المناصرة لإيران يمكن أن تقوم بالنيابة عن إيران بإثارة مصاعب وتحديات للوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط ولبعض حلفاء أمريكا، ويمكن أن توجه ضربة هنا أو ضربة هناك، لكن سيظل الوضع العام على ما هو عليه. وفى كل الأحوال، وما دام الأمر بعيدا عن المواجهة العسكرية المفتوحة، يمكن نظريا الوصول إلى نقطة وسط، وإلى اتفاق جديد، أما إذا تبدل الأمر من العقوبات المشددة إلى الحرب، فعندها ستتغير جميع المعادلات، وستدفع شعوب المنطقة الثمن الأكبر.