معظم الأبطال جاءوا من الريف. ومحمد صلاح جاء من نفس المكان، وحجز مقعده بين أساطين لعبة كرة القدم. والريف هو مخزن المواهب. وحسب تقرير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فإن عدد القرى المصرية هو 4655 قرية، فمن العيب ألا يكون لدينا نفس العدد من محمد صلاح! والمواهب موجودة، وهى لا تحتاج إلا للصقل والنور، والنور لا يأتى إلا بمعجزة، وبعض الحظ، والحظ مطلوب، لكنه لا يكفى. فالعمل والاجتهاد والتخطيط هو الجسر إلى الإتقان والمهارة، والمهارة هى القوة الناعمة للأمم فى عصر لا يرحم. وقصة نجاح محمد صلاح إشارة قوية للأجيال الراهنة لينطلقوا إلى المسرح الدولى، وأمل للموهوبين الخائفين من التجربة. أغرتنى قصة صلاح كريفى لأعود بالذاكرة إلى خمسين عاما، وكيف تاهت مواهب عظيمة، ولا ينبغى أن نضيعها مرة أخرى. بالكاد كانت أطوالنا عدة أشبار نتقافز فوق الأرض. ننتظر «محلاهم»، و«محلاهم» هى أتوبيس النقل العام القادم من مركز ديروط المحطة إلى مركز ملوى مرورا بقريتنا«تندة». «محلاهم» تقف فى أول القرية، وفى المنتصف، وفى آخر الطريق الخارج من القرية فى نظام صارم وتوقيت دقيق، كنا نذهب إلى أول محطة، نتقافز بين أرجل الكبار، نتسلل إلى آخر كرسى بعيدا عن عين محصل التذاكر(الكمسارى)، من يملك من بيننا أظافر أطول يسرب يديه تحت الكرسى الأخير الطويل، يقطع قطعة إسفنج كبيرة، ثم يقفز إلى الشارع، تلاحقه لعنات الكمسارى، وسباب الركاب، يعطى قدميه للريح، مهللا مسرورا. نأخذه نحن الأشقياء بالأحضان، نرفع ذراعيه إلى أعلى، نذهب إلى أقرب بيت من بيوت الرفاق، نمزق قطعة الإسفنج قطعا صغيرة، نجهز الخيط والإبرة، و«فردة» جورب نسائى طويل خبأه أحد الأشقياء من أمه أو أخته أو جدته، وحين يتم اكتشاف الجريمة يأخذ عقابه من الضرب والتعنيف، ثم يتنازلون له عن «فردة» الجورب الثانية. الآن صنعنا كرة. والآن علينا أن نسمى الفريق، وليكن فريق «الناشئ»، وكابتن الفريق هو من جاء بالإسفنج، ونائب الكابتن من أتى بالجورب النسائى الطويل. بعد جهد وجدال صار الفريق يسمى«الناشئ»، استحسنا الاسم، فنحن صغار، والكبار لديهم «ناصر» و«الشرطة»: و«المارد»، بعضنا فى سن المدرسة، والبعض الآخر ينتظر، أما الفرق الأخرى فمن الكبار جدا فى المرحلة الإعدادية والثانوية، والأكثر أفندية فى الجامعة، وضربتنا الأحلام فتخيلنا أننا نلاعبهم، ونفوز عليهم بكرة من إسفنج «محلاهم»، ومن يملك الكرة يلعب فى أى وقت. كم مرة ضبطنا الكمسارى فى (محلاهم)، وأفرج عنا بعد تدخل الكبار. وكم مرة واجهنا الحبس الانفرادى فى الغرف المظلمة، وكم مرة تم تعليقنا فى (الفلكة) لأننا راسبون فى المدرسة بسبب لعب هذه الكرة، وبعد كل مرة كنا نقسم بأغلظ الأيمان بأننا لن نلمس هذه الملعونة، وحين نلتقى نعيد التجربة، ونلعب، ونتجادل، ونكبر، ونعرف الهروب إلى الفرجة فى ملاعب القرى المجاورة. عرفنا أندية الأهلى والزمالك، والإسماعيلى والترسانة والمحلة والأوليمبى والاتحاد السكندرى والمصرى، من التليفزيون الوحيد الموجود فى الوحدة المجمعة لدى المعلم «فيض»، سمعنا الكبار يرددون أسماء صالح سليم وميمى الشربينى وهانى مصطفى وشحتة الإسكندرانى وعز الدين يعقوب وحمادة إمام، وطه بصرى، وحسن شحاتة، وفاروق جعفر والشاذلى ومصطفى رياض وعلى أبو جريشة، وسيد بازوكا، وعمر عبد الله، والسياجى وعماشة، ومروان كنفانى، وعادل هيكل، وأخيرا الخطيب وعبد العزيز عبد الشافى «زيزو» وصفوت عبد الحليم، كنا نقلد كلام الكبار، ونطلق على أنفسنا أسماء اللاعبين، كبرنا وقرأنا فى الأهرام للمعلم نجيب المستكاوى، وفى الأخبار للأستاذ عبد المجيد نعمان، وسمعنا فى الراديو وشاهدنا فى التليفزيون تعليق الكابتن لطيف الطريف، وعرفنا بيليه، وبكنباور وكرويف وياشين. شخصيا أطلقوا علىّ لقب «السعيد عبد الجواد» مدافع اليمين الشهير فى نادى المحلة، حين كان كل لاعبى المحلة فى الفريق القومى قبل أن يغيروا اسمه إلى «المنتخب»، وعرفنا «استاد ناصر» قبل أن يصبح «استاد القاهرة». كان من بيننا عشرات محمد صلاح، تاهوا فى الطريق، وكل جيلى لا ينسى ولدا أسمر يدعى حسين أبو عبده.. أشهر لاعب أيسر (رهوان)، لو وجد الفرصة كان يمكن أن يكون فى شهرة خضر التونى، أشهر لاعب مصرى فى رفع الأثقال، ويلتقى أدولف هتلر، ويرافق صلاح إلى كأس العالم فى روسيا. فلا تتركوا حسين أبو عبده وكل حسين، واجعلوه «محمد صلاح» مرة أخرى.