زيارة بابا الفاتيكان تؤكد أننا دولة تتمتع بدرجة عالية من الأمن والاستقرار الفاتيكان أصغر دولة ذات نفوذ عالمى يتبعها روحيًا أكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص
تأتى الزيارة الأولى للبابا فرنسيس، بابا الفاتيكان إلى مصر- نهاية شهر إبريل الجاري، بعد 16 عاما من آخر زيارة يقوم بها بابا دولة الفاتيكان، لتحظى بأهمية كبيرة فى الإعلام المصرى الذى يرى تلك الزيارة فرصة لتوطيد العلاقات بين الكاثوليك والمسلمين، خصوصا أن البابا سيشارك فى «مؤتمر السلام «الذى ينظمه الأزهر الشريف.. ومن جانب آخر تأتى الزيارة بعد الهجوم الإرهابى على كنيستى مار جرجس بطنطا، وكنسية مارمرقس بالأسكندرية ، واللتين أدانهما البابا فرنسيس بشدة مقدماً تعازيه للمصريين وورئيس الكنيسة القبطية . من هذا المنطلق نحاول التعرف على أهمية تلك الزيارة سياسيًا، ومدى تأثيرها على مصر ومردودها حول العالم، وتفاصيل أخرى يقدمها ل «الأهرام العربى» المفكر السياسى «إميل أمين»، الكاتب المتخصص فى شئون الفاتيكان، والمراسل السابق لإذاعة الفاتيكان، ووكالة الأنباء «زينت» ومؤلف كتاب «الفاتيكان مرتفعات النبوة، فصول من الدين والدولة» تحت الطبع، خلاصة تجربة عمله لأكثر من 12 عامًا، نلمسها فى الحوار التالي. ما أهمية دولة الفاتيكان فى العالم ؟ ولماذا يحظى بابا الفاتيكان دائمًا باهتمام خاص حول العالم ؟ الواقع برغم أنها أصغر دولة من حيث المساحة حول العالم، إذ إن مساحتها نحو نصف كيلو متر مربع ليس أكثر، فإنها من حيث النفوذ العالمى تعد فاعلة جدًا، إذ يتطلع إليها، ويتبعها روحيًا أكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص موزعين حول قارات العالم الست، وعدد مماثل من بقية الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية، فضلاً عن الحضور والتمثيل الدبلوماسى للفاتيكان حول العالم المحافل الدولية بنوع خاص، ويبقى البابا فى كل الأحوال رمز البابوية الأشهر. أما بابا الفاتيكان فهو الرجل الذى يترأس الكنيسة الكاثوليكية، تلك التى وصفها المؤرخ الأمريكى الأشهر «وول ديورانت» فى موسوعته قصة الحضارة بأنها «أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ»، ويقول عنها الراحل الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل بأنها «إمبراطورية دون حدود أو مستعمرات»، ولذا فإن مكانة البابا عالمية، وأينما حل تتوجه الأنظار إليه، بثوبه الأبيض الشهير، وبنواياه الساعية للسلام، ومن هنا جاء شعار الزيارة، بابا السلام يزور أرض السلام». لماذا هذه الزيارة إلى مصر فى هذا التوقيت تحديدًا ؟ تمر هذه الأيام سبعة عقود على بدء العلاقات الدبلوماسية الفاتيكانية المصرية، فى عهد الملك فاروق ملك مصر والسودان والبابا «بيوس» الثانى عشر، وقد تعززت هذه العلاقات على نحو خاص مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسى للرئاسة، وقد زار قداسة البابا فرنسيس ووجه له دعوة لزيارة مصر، بجانب دعوة الكنيسة الكاثوليكية المصرية، فالبابا لكى يزور أى دولة لا بد أن يتلقى دعوتين واحدة من الرئاسة المدنية والأخرى من الرئاسة الكنسية. ما أهداف الزيارة على وجه التحديد ؟ - تتصل دائمًا زيارات الحبر الأعظم «بابا روما» بنشر السلام، وإقامة الجسور بين الأمم والشعوب، ومصر هى رائدة للسلام فى الشرق الأوسط بنوع خاص؛ ولهذا رأت الكنيسة الكاثوليكية بالاتفاق مع القيادة السياسية المصرية أثر المردود العام لهذه الزيارة على أحوال السلم العالمى والإقليمي، ستكون طيبة وتعزز من التعايش الإنسانى فى هذه الأوقات المأزومة تاريخيًا. ما الذى تعنيه زيارة البابا للأزهر الشريف على نحو خاص ؟ - العلاقات بين حاضرة الفاتيكان والأزهر الشريف متميزة تعود موجة الانفتاح إلى زمن المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى (1962 – 1965)، الذى دعا لقراءات جديدة بين أبناء الأديان الإبراهيمية. وفى عهد البابا فرنسيس شهدنا عودة واضحة وإيجابية للحوار المتبادل، والذى يركز على القضايا التى تخدم الإنسانية، وفى هذه الزيارة يقوم البابا برد لزيارة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر للفاتيكان فى مايو الماضي. وسيشارك البابا فى مؤتمر السلام العالمى الذى يعقده الأزهر، وسيلقى كلمة، وهذا فى حد ذاته عمل تاريخي، تشهده مصر، أرض التوحيد منذ زمن إخناتون حتى الساعة، ولا شك أن هذا حدث عالمي. هل من مردود سياسى لزيارة البابا مصر؟ بكل تأكيد، تعد الزيارة أوقع من إنفاق ملايين الدولارات على شركات العلاقات العامة، إن أردنا تصوير مصر الحقيقية، وكما هى الآن ناهضة شابة تسعى للتجديد والإصلاح، فى عيون العالم. زيارة البابا تعنى بادئ ذى بدء أننا دولة تتمتع بدرجة عالية من الأمن والاستقرار، مع ما يعنيه ذلك على السياحة، وتشي بالتعايش الواحد بين أقباط مصر ومسلميها، ما يدحض أفكار المؤامرة عن الفتنة الدينية فى مصر، وفوق ذلك كله، سوف تكون الزيارة إيذانًا بمرحلة جديدة فى مواجهة الإسلاموفوبيا حول العالم. لماذا يرى العالم الإسلامى البابا فرنسيس من منظور مخالف عن سابقه البابا بندكتوس ؟ البابا بندكتوس مفكر وفيلسوف، وكان حظه قليلا مع العالمين: العربى والإسلامى من جراء محاضرة «ريبورغ» فى ألمانيا، فى حين أن البابا فرنسيس له مواقف تقدمية ومحترمة جدًا فى العالم العربى خاصة، حيث يوجد إسلام ومسلمون بنوع خاص، فقد أنكر رسميًا حتمية ارتباط الإسلام بالإرهاب، وأشار إلى أن الأصولية والأصوليين يمكن للمرء أن يجدها فى أى دين، حتى فى قلب الكاثوليكية، فضلاً عن ذلك يعد من أوائل القادة الروحيين فى أوروبا الذين رحبوا بالمهاجرين واللاجئين من العالم العربي، لا سيما من سورياوالعراق والأردن، وكل ضحايا الربيع العربي، وأخيرًا استنكر ما يحدث لمسلمى الروهينجا فى ميانمار، ووصفهم بأنهم «أخوة لنا، حتى وإن كانوا غير مسيحيين»، ولهذا يوصف بأنه بابا القلب الطيب. ما الذى تمثله هذه الزيارة للمصريين مسلمين ومسيحيين بشتى طوائفهم ؟ الذى تمثله بالنسبة لعموم المصريين من مسلمين ومسيحيين معًا، فى تقديرى أنها فرصة جيدة للعالم كله، ليرى المعين الحضارى والإنسانى المختبئ، وأحيانًا المختفى تحت الجلد المصرى الواحد، عبر آلاف السنين، لقد كانت مصر هى مخترعة الأديان كما قال فرويد ذات مرة، ومن يقرأ كتاب الخروج إلى النهار المعروف باسم كتاب «الموتى» يدرك ما للدين ولرجاله من كرامة عند المصريين، لذا أعتقد جازمًا أن الترحيب بالبال سيكون واضحًا، جليًا فى عيون كل المصريين. هل يمكن للزيارة أن تبعث برسالة ما لأوروبا حيث أحوال التعايش هناك مضطربة ؟ بالطبع، أنها تحمل رسالة لأوروبا بوصفها الجار الأقرب جغرافيًا، والصديق الأكبر تاريخيًا للعرب والمسلمين، عبر قرون طويلة، ليس هذا فحسب، بل إن الرسالة تطال الأمريكيين، وكل بقعة ورقعة حول العالم، تراودها هواجس «صدام الحضارات»، أو «تناحر الثقافات»، فضلاً عن الحديث ال1ى يؤلم القلوب المتصل بالكراهية والأصولية بين أتباع الأديان، وما تنجم عنه من مآس، الزيارة تقول إن العيش المشترك ممكن، بل واجب، وأن الخير أقوى من الشر، كما أن الحب أفضل من الحقد، والمسامحة تنتصر على الانتقام، وإن قوى الخير ستتغلب حتمًا على قوى الشر، وأن النصر سيكون للحب والسلام دائمًا وأبدًا. كيف لنا أن نقرأ موقف الفاتيكان من قضية العرب الأولى فلسطين؟ هذا سؤال يحتاج إلى أحاديث قائمة بذاتها، والجواب بغير اختصار مخل يفيد بأن القيادة الروحية فى المؤسسة الفاتيكانية رفضت فى أواخر القرن التاسع عشر، وفى زمن البابا بيوس العاشر دعوة «تيورهرتزل» لإقامة دولة اليهود فى فلسطين، وبقيت على موقفها من المدينة المقدسة «القدس»، ومكانتها لدى أتباع الأديان الإبراهيمية، ومن يتعمق فى قراءة النيات الصهيونية تجاه المؤسسة الفاتيكانية، يدرك مقدار الأحقاد، التى تحملها لخليف مارى بطرس تاريخيًا، وحتى إن بدت الأمور لاحقًا على خلاف ذلك، لا سيما منذ القراءة التقدمية للجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى والوثيقة الشهيرة المعروفة باسم Nostra Aetate، أى فى «حاضرات أيامنا»، والتى أعادت النظر لليهود بوصفهم أبناء إبراهيم، بعد مئات السنين من النظرة الأوروبية المعادية للسامية، والمثير هنا هى أن اليهود كانوا يعيشون فى العالم العربى وفى المقدمة مصر، كمواطنين كاملى المواطنة، والشاهد على ذلك مشاركتهم فى الحياة السياسية والاجتماعية، والفنية والاقتصادية، وهى أوضاع لم تتغير إلا بعد قيام دولة إسرائيل، والاستيلاء على الأراضى الفلسطينية وتشريد وتهجير أصحابها العرب. هل لو استمع العالم العربى لا سيما الولاياتالمتحدةالأمريكية لنداءات البابا يوحنا بولس لما كان الشرق الأوسط وصل إلى هذه الحال؟ حينما كان جورج بوش الابن وجماعة المحافظين الجدد يقرعون أجراس غزو العراق قبل مارس 2003 حذر البابا يوحنا بولس من أن مثل هذه حرب ستجر ويلات كثيرة على العالم، وستجلب الخراب على الشرق الأوسط، وستعيد التذكير بحروب الفرنجة كما رآها العرب، أو الحروب الصليبية كما أطلق عليها الغربيون؛ لذا أرسل الكاردينال «بيولاغي» لمقابلة بوش الابن، الذى رفض تغيير نياته، فى حين أرسل الكاردينال «روجيه اتشيجاري» إلى صدام حسين، لتجنب بلاده الهول الأعظم، وكان أن صدقت نبوءة «يوحنا بولس»، وها نحن نرى مآل واستقبال الشرق الأوسط. أخيرًا.. لماذا يحذر البابا فرنسيس من حرب عالمية ثالثة؟ يطلق البابا على ما يجرى الآن حول العالم تعبير «حرب عالمية ثالثة مجزأة»، فالأزمات والصراعات الإقليمية باتت تشمل العالم من أدناه إلى أقصاه، وفى الأيام القليلة المنصرمة نكاد نرى المواجهات تشتعل بين القوى العظمى، ولهذا فإن نداء السلام من الأزهر خلال زيارة البابا أمر يكتسى أهمية خاصة من حيث المعنى والمبنى، وكذا التوقيت.