حملت طيور العقاب صناديق سوداء علي أكتافها وصوبتها نحونا, تحاول أن تقتنص دموعنا التي انهمرت حزنا عليك صباح ذلك اليوم الجهم من أوائل شهر يوليو, تنقض الجوارح علي الضحايا تسرق منهم لحظات صافية من الحزن النبيل, شابات ثكالي من تلميذاتك فقدن لتوهن الأب الذي أحببنه ابنا لهن. أستاذي العزيز.. إن الله إذا أحب عبدا استعمله, وما أظن يا أستاذي أن ثانية من سنوات عمرك التي أشرفت علي السبعين قد مرت دون أن تستثمرها دفاعا عن معبد الله في الأرض.. الانسان.. عن قضية الأمة وانسانية الانسان, وإقامة حدود الله علي أرض الله. لذلك أحببت نظرية البساط الأحمدي الذي فرشته أمامنا ودعوتنا لكي نشاركك جلستك عليه, تمد لكل منا يديك بكسرة الخبز وشربة الماء وبسم الله! في جناحك بالدور الأول من مستشفي فلسطين تمازحنا علي مفارقة أن تموت بمستشفي فلسطين نظارتك الطبية وتليفونك المحمول وعشرات الأوراق والمسودات والكتب والمقالات وعلبة المناديل الورقية وعلبة عصير لم ترشف منها سوي قطرتين بعد إلحاح من د. هدي, تتقدم إلينا بخطوات بطيئة وتستسلم لعناق مقعد عالي الظهر, تجلس وتتحدث إلينا في حماس مسيري مألوف, يحاول الممرض أن يغرس إبرته في ذراعك فتعانده شرايينك وتختفي هربا منه. يمر بنا الوقت, نهم بالانصراف, لا يصح أن نطيل ونحن نزورك في المستشفي, لا نريد أن نعود إلي منازلنا وأنت دارنا. تتمسك بنا: بطلوا بواخة وقلة أدب!, ثم تعاجلنا برواية اخري لذيذة السرد عن صاحب النزل في فينيسيا, تستفسر من د. هدي عن اسمه, ثم تراجعك في إحدي تفاصيل الحكاية وتعارضها وتصر علي نسختك أنت فتستسلم د. هدي لسلطة سردك وديكتاتوريته المبهجة محبة وتقديرا. في مكالمتنا الأخيرة يوم الثلاثاء قبل خميس الفقد سألتك متي نخرج لصيد الذئاب فأجابتني ضحكة صافية جميلة صادرة من قلبك الكبير.. أوهمتني أن الأزمة ستمر مثل غيرها من الأزمات. الآن أتبين أنك كنت تعلم أن الأوان آن لكي أخرج للصيد وحدي دون معلمي وأستاذي. أعلم أن الذي أنجب لم يمت, وأن الذي ألف لم يمت, والذي علم لم يمت..لكني أرفض أن تتحول من زمن مضارع إلي زمن ماض! وكيف نسمح لهذا التحول المشئوم أن يحدث ونحن نري في وجوهنا ملامحك, بل نسمع في أصواتنا صوتك ؟ بل إن كل الوجود علي سفر الوجوه (Facebook) وفي ميدان التحرير قد أصبحتك أنت في لحظات مختلفة ومراحل مختلفة.. فتراك تولد بيننا من جديد بين صفحات كتبك وفي زوجك وأولادك وأحفادك وتلاميذك ومريديك. عزيزي د. عبدالوهاب.. صلينا علي جثمانك الطاهر مرتين في رابعة العدوية, بينما حملتك العربة البيجو البيضاء الستيشن منطلقة إلي دمنهور شعرت بأن قطعة من مصر تدفن معك, تعلم بالطبع ما روته لي ندي أن السماء قد اختفت وراء الطائرات الورقية الملونة بينما كانوا يشيعون جسدك إلي مثواه الأخير, وتعلم أيضا أن نسمات باردة رغم أنف حر يوليو هبت من قبرك يوم دفنك بمقابر الأسرة في دمنهور, أما روحك فأراها في منامي تسبح بين طير خضر تسبح تحت عرش الرحمن وتدعو دعاء محببا لك, رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين. لقد كنت عبدا صالحا..جاهدت بمالك ونفسك, وعملت عملا صالحا وأنت مؤمن به فلم تخف ظلما ولا هما.. حملت روحك علي راحتك, وكتبت وتحاورت وعارضت وألهمت رحمك الله.. وغفر لك.. وأكرمك بما قدمت.. وجعل لنا في زوجك وابنيك وتلاميذك وفي أمتنا عوضا.. إنه نعم المولي ونعم النصير.