تعيش مصر لحظة فارقة في تاريخها السياسي. لحظة تختلط فيها المشاعر والطموحات والرؤي والافكار علي نحو نادر لم يحدث من قبل. لحظة تحتاج فيها الأمة بأسرها أن تضع خريطة طريق للمستقبل وليس للماضي. هذه اللحظة التاريخية لا يجب أن تضيع سدي ولا يجب التعامل معها وفق أسلوب المكائد الصغيرة أو الاسترزاق السياسي من جماعة هنا أو حزب هناك, فقد فات الوقت الذي يمكن فيه خداع الشعوب او تجاهل مطالبها أو النظر إليها كقطيع من الأغبياء او فئات من المهمشين فاقدي الإرادة. فقد اثبت المصريون البسطاء من كل الفئات والطبقات وعيا رفيع المستوي ووطنية وانتماء طالما تشكك كثيرون في وجودها أصلا, كما اثبتوا أن لدي كل مصري طاقة فعل ايجابية هائلة تحتاج من يستثمرها ويضعها في الموضع الصحيح, ليحصل من ورائها علي وطن مرفوع الهامة وينافس أرقي الامم. لقد أرخت الأيام السبعة الماضية عن بزوغ جيل جديد يتعامل مع السياسة بطريقة مختلفة عما اعتادت عليه البلاد من قبل. جيل يري الأمور بشكل مختلف عما تراه النخبة, جيل يري نفسه مظالم مجسدة من دم ولحم, ويري في بلاده أمورا معوجة كثيرة, ويري في نفسه قدرة علي التغيير متسلحا بعبارة أن مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير. جيل بات يصنع الحدث عبر رسالة اليكترونية محدودة الكلمات ولكنها كبيرة التأثير. جيل يشاهد ما يجري حوله بلا قيود, ويسأل نفسه هل نحن أقل من هؤلاء الجيران الذين غيروا مصير بلدهم, ويجيبون في قرارة أنفسهم بالطبع لا. جيل يشعر بأن هناك مسافة كبيرة بينه وبين القمة وأن الأمر بحاجة إلي تغيير في المظهر كما في الجوهر. إن مشكلة الأجيال الجديدة التي لم يدركها الكثيرون أنها لم تعد تحدث نفسها وحسب, ولكن أيضا باتت تشكل لنفسها عالما خاصا بها من الافكار والطموحات والاحباطات والتعبيرات والمفردات والسلوكيات. في جزء كبير من هذا العالم الشبابي الخاص طموح نحو إثبات الذات, يحدوها في ذلك حالة عدم رضاء تزداد مساحة وعمقا يوما بعد أخر, وتزداد معها حالة الانكسار والشعور بقلة الحيلة وانسداد الافق وغياب الأمل. ولكن جاءت اللحظة لكسر القواعد المقيتة وبناء قواعد لعبة جديدة. لقد كشف تتابع الأحداث الأمور بدرجة اكثر وضوحا لمن يريد أن يري الامور علي حقيقتها الناصعة, فالشباب الذين نزلوا إلي الشارع يتحركون بفعل الاحباط ومخزون الغضب اكثر مما يتحركون بتوجيهات سياسية أو تنظيمية من هذا الفريق أو تلك الجماعة. ومن يدعي غير ذلك فهو من يعيش في رحم الماضي ولم يدرك حجم التغير الذي باتت عليه مصر الناس والشعب. إنهم الجيل الجديد الذي يريد ببساطة أن يشكل نظامه السياسي الخاص الذي يعكس مزاجه وطموحه ورؤيته لنفسه وللعالم من حوله, ولا شئ يمكن قوله هنا سوي أن هذا حقه الطبيعي وعلينا أن نعطيه فرصة ممارسة هذا الحق, فهم المستقبل وهذه بلدهم. السؤال كيف نستثمر هذه اللحظة النادرة, وكيف نحولها إلي مشروع قومي ملهم, يصنع وطنا جديدا يشعر فيه كل فرد بأن مصر هي الوطن الذي شارك في صنعه, وهي التقدم الذي أسهم في تخليقه, وهي العزة التي شكلها علي مقاس بلاده العظيمة وتاريخها ووزنها الكبير. أظن أن هناك إجابات عديدة مختلفة المشارب والتوجهات, ولكني أظن أيضا أن بينها جميعا قواسم مشتركة يصعب الفكاك منها, ولعل أول هذه القواسم أن هناك ضرورة ملحة لمحاسبة فورية وعاجلة قدر الامكان لكل الذين قصروا في حق المصريين جميعا, وكل المسئولين الذين تنكروا للدستور وحقوق المواطنة وتفننوا في استبعاد المصريين في أن يكونوا أصحاب القرار في حاضرهم وفي مستقبلهم, وكل الذين زورا إرادة الأمة في الانتخابات البرلمانية الاخيرة أيا كان شأنهم ووزنهم, فالمزورون ليس لهم مكان في مصر الغد, وخائنو الامانة يجب أن يحاسبوا فورا. وأظن أيضا أن هذه المحاسبة الفورية لابد أن تشمل هذا الملف العجيب الغريب الذي بات يقلق كل المصريين دون استثناء, ملف انسحاب الشرطة المفاجئ والمريب عصر يوم الجمعة28 يناير الماضي, والذي ترتب عليه ما ترتب من فوضي وخراب وهروب المساجين وحرائق اقسام الشرطة وفتح السجون وانتشار الاسلحة وسطوة البلطجية علي عباد الله. إن الاسئلة التي تموج في أذهان كل مصري بحاجة إلي الحسم من خلال محاسبة الذين تسببوا في هذه المحنة التي عاشتها مصر في الأيام الماضية, وتسببوا أيضا في شرخ عميق بين الناس وبين الشرطة بكل فئاتها ودرجاتها, وهو الشرخ الذي سيحتاج إلي معالجة خاصة وواعية تعيد الثقة بين الناس وبين الشرطة, وتعيد الاحترام المتبادل بين الشعب والشرطة وفق قاعدة أن الشرطة في خدمة القانون والناس معا, وليست فوق القانون. إن تجربة الفراغ الأمني التي عاشها المصريون علمتهم الكثير من حيث الاعتماد علي الذات في الاوقات الحرجة وفي التضامن والتلاحم الاجتماعي وفي التنظيم الذاتي والتلقائي وإدراك المسئولية تجاه الوطن ككل. غير أنها أيضا علمتهم أن الحاجة إلي الشرطة هي جزء أساسي من انتظام الحياة المعاصرة ورد المظالم والحفاظ علي الحقوق وتعزيز الأمن الفردي والجماعي. لكن السؤال هو أي شرطة يجب أن نتعامل معها؟ إن الشرخ العميق الذي أقامه الذين خانوا الأمانة من بعص أصحاب القرار في جهاز الشرطة, والذين تسببوا في الوصول بعلاقة المواطن والشرطة إلي هذه الدرجة من السوء عليهم وزر عظيم لا يمكن أن يمر هكذا دون عقاب رادع يعيد الأمل للنفوس مرة أخري, ويؤكد أن لا هروب من المحاسبة, وأن القانون والدستور فوق الجميع. ثمة حاجة ماسة الان إلي إعادة تنظيم جهاز الشرطة وفق أسس جديدة تراعي حقوق الانسان وتراعي الشفافية وتراعي مصر وأمنها واستقرارها. ثمة حاجة ماسة إلي خطة واضحة تصل إلي كل مواطن مصري بأن جهاز الشرطة في المرحلة الجديدة هو جهاز أمين تستقر إليه النفوس ويأمن إليه الناس. ثمة حاجة ماسة إلي إعادة هيكلة جهاز الشرطة ليظل أمينا علي التزاماته الدستورية والقانونية وألا ينقلب عليها تحت أي ظرف كان. ثمة حاجة ماسة إلي إعادة تنشئة العديد من رجال الشرطة في المستويات الأقل من أمين شرطة ومخبر وشرطة سرية ليتقوا الله والناس. إن استعادة الثقة في عمل الشرطي بعد أن ظهر فيهم السارق وخائن الامانة والمفسد ومثير الفتنة هو الأولوية التي أراها عاجلة ولا تحتمل التأجيل أو البطء أو الغموض في الأداء. فلن يهدأ الناس إن لم يعرفوا الحقيقة وحوسب خائنو الأمانة فورا وبلا تأجيل. إن هذه المحاسبة سوف تؤكد القطيعة بين مرحلة مضت وأخري تتطلع إليها مصر بكل ترقب وشغف, بل يترقبها العالم أيضا بكل اهتمام. هذه المحاسبة ستكون ضرورية أيضا لاستعادة الثقة في الاقتصاد المصري الذي تضرر كثيرا من هذا الفلتان الأمني المقصود, وبالتالي استعادة مكانة مصر كبلد آمن مستقر يحفظ الحقوق ويرعي الأمانات, وهو الشرط الأول لجذب أي استثمارات. وتستدعي المرحلة الجديدة إصلاح الحياة الحزبية بكاملها. وما يهمني هنا هو ذلك الاختبار الذي ستقدم عليه مصر قريبا, والذي تلوح بشائره في الأفق, وأعني به انتخابات مجلس الشعب في عدد كبير من الدوائر وربما كل دوائر المجلس بلا استثاء إن قررت محكمة النقض عدم صحة عضوية ما يزيد من70% من إجمالي الأعضاء. وفي هذه الحالة ستكون المرحلة الجديدة أمام اختبار للنزاهة والشفافية يجب أن يمر بكل كفاءة وكل مصداقية وإلا انقلبت الأمور رأسا علي عقب. والسؤال هل ستتم إعادة الانتخابات بنفس الأسلوب السابق, وبنفس القواعد القانونية, أم أن الأمر سوف يتطلب تغييرات جذرية في قانون الانتخابات وفي دور اللجنة العليا للانتخابات وفي استبعاد وزارة الداخلية تماما عن هذه العملية أو علي الأقل ترشيد هذا الدور بحيث يكون دورا تكميليا للجنة العليا للانتخابات وليس دورا مهيمنا كما كان في السابق؟ لاشك هنا أن شرعية المرحلة الجديدة كمرحلة تحمل بعض القطيعة مع سلوكيات المرحلة السابقة ستتوقف علي طبيعة الدور الذي ستقوم به وزارة الداخلية في هذه الانتخابات البرلمانية المنتظرة, وعلي مدي النزاهة والشفافية التي ستتسم بها تلك الانتخابات, وعلي مدي مشاركة الناس فيها وعلي حجم رقابة المجتمع المدني التي سيسمح بممارستها. وكلنا أمل أن تكون هذه الانتخابات بمثابة طفرة في الحياة السياسية والحزبية, وأن تؤسس لشرعية شعبية حقيقية لمصر الناهضة. وما دام الحديث عن إصلاح الحياة الحزبية, فلا يستقيم الأمر دون إشارة إلي ضرورة إصلاح الحزب الوطني نفسه, فقد انكشف الحزب تماما في الأيام القليلة الماضية, ولم يتضح لأحد أنه حزب الأغلبية أو أنه الحزب المهيمن أو القائد. لقد تجاوزت ثورة الشباب الحياة الحزبية برمتها صغيرها وكبيرها, المحظور منها والحاصل علي تصريح قانوني. وكما هو مطلوب من كل الأحزاب إعادة النظر في عملها وفي تواصلها مع الأجيال الجديدة, فإن الحزب الوطني هو الاولي بأن يتحمل هذا العبء بكل جسارة وبكل أريحية. وأن يعترف لنفسه أولا ولكل مصري ثانيا أن هناك الكثير من الاخطاء التي وقع فيها الحزب والتي لا مناص من معالجتها جذريا, وأن يعترف أيضا بأن كثيرا من قوته استمدها من الجهاز الاداري للدولة المصرية ومن وزارة الداخلية تحديدا, وأنه آن الآوان لكي يستمد هذه القوة من الناس أنفسهم بكل طواعية واقتناع, وأن يعتمد علي برنامج واضح يعكس طموحات الناس في مصر آمنة ومزدهرة, وأن يعيد بناء أجهزته القيادية والوسطي وفي كل الدرجات, وان تأتي قيادة جديدة شابة تجيد التواصل مع المصريين عامة ومع الشباب منهم خاصة. وإن حدث ذلك فلن يكون مطلوبا ان يكون رئيس الدولة هو نفسه رئيس الحزب.