والآن بعد أن هدأت الضجة الإعلامية والسياسية بشأن موت الشاب خالد سعيد في الإسكندرية وملابسات هذا الحادث, وبعد تحويل المتهمين إلي محكمة الجنايات لابد أن نتوقف ونناقش ما حدث بهدوء وتعقل. ولكن دعونا نتفق أولا علي أن كرامة أي مواطن هي من كرامة الوطن, وكرامة المصري هي من كرامة مصر, وأنه لا يوجد قانون يعطي لأي هيئة السلطة في التعذيب أو الإيذاء البدني أو استخدام القوة المفرطة. وأن التعذيب هو جريمة بمقتضي الدستور لا تسقط مهما طال الزمن, وأن القانون ينظم حالة استخدام القوة بواسطة الشرطة ويربطها بالدفاع عن النفس. وبالتالي فإن أي واقعة تعذيب هي مرفوضة قانونيا وأخلاقيا. لقد كشفت المناقشات حول هذه الواقعة عن ثلاثة نتائج هامة جديرة بالتحليل. النتيجة الأولي هي تسييس الموضوعات وإخراجها من سياقها المحدد إلي اتهامات مرسلة للنظام والحكومة. وعلي سبيل المثال تم تحويل تجاوز قام به اثنان من مخبري الشرطة إلي قضية عامة تصل إلي حد تصويرها علي أنها ممارسة يومية اعتيادية تقوم بها الشرطة. وجهاز الشرطة بمقتضي الدستور هو هيئة مدنية تقوم علي توفير الأمن للمواطنين في حياتهم, ويتداخل نشاطها مع كل جوانب المجتمع من سرقة وسكة حديد ومرور وسياحة وجوازات وسجل مدني وأسواق ومكافحة إرهاب... الخ. ولا يمكن أن تحقق الشرطة مهمتها دون تواصل وتفاعل مع الناس, وبدون ثقتهم في نزاهتها وكفاءتها. وبالطبع فإن جهاز الشرطة ليس فوق القانون ولكن شتان بين نقد تجاوز ارتكبه مجموعة من رجال الشرطة في واقعة محددة والمطالبة بالتحقيق في ملابساته وإنفاذ القانون وبين إثارة الشكوك وتوجيه الاتهامات للجهاز بأسره. النتيجة الثانية هي خطورة الأفكار المسبقة والتصورات غير المؤسسة علي سند من الواقع مثل الترويج لأن الشاب قد فقد حياته بسبب التعذيب واعتبار ذلك حقيقة مؤكدة. ومن المشاهد الدالة علي ذلك هو ما حدث في البرنامج الذي قدمه الأستاذ عمرو أديب يوم إصدار النائب العام قراره بإعادة تشريح الجثة بواسطة لجنة أخري من الطب الشرعي, وكان اتجاه المشاركين هو الإشادة بقرار النائب العام ولكن عندما سأل عمرو أديب المشاهدين عن رد فعلهم إذا جاء تقرير اللجنة الجديدة مؤيدا للتقرير السابق فكان تعليق أغلب المشاركين هو الرفض وأن اللجنة الجديدة تكون غير محايدة. وهكذا, فقد أصبح لدي هؤلاء اعتقاد جازم وتصور مسبق عن سبب الوفاة وليسوا علي استعداد لتغييره. وساعد علي ذلك بقصد أو بدون قصد عدد من وسائل الإعلام التي نشرت تحقيقات أو بثت برامج أصدرت حكمها في الموضوع, وأرتبط بذلك الصورة التي نشرتها بعض الصحف لخالد سعيد دون توضيح عما إذا كانت قد التقطت قبل التشريح أم بعده حتي يمكن تفسير الكسور الواضحة علي الفك. ومن ذلك أيضا التصريحات التي أدلي بها رئيس الطب الشرعي السابق ورد الرئيس الحالي عليه. وهي كلها أمور تثير اللبس والارتباك في الأذهان وتساعد علي نمو الأفكار المسبقة وتؤكد مشاعر عدم الثقة في الآخرين وفيما يصدر عن الهيئات الرسمية من توضيح لما حدث. والنتيجة الثالثة تتعلق بضعف قرون استشعار الحكومة والجهات المسئولة عن إدارة هذا الموضوع وعدم إدراكها المبكر بأنه موضوع رأي عام ولا يمكن التعامل معه بشكل روتيني وبيروقراطي وهو ما أتاح المجال لخصوم الحكومة السياسيين في انتهاز الفرصة واستغلال المناخ لتأكيد إدانة وزارة الداخلية وأن النظام يسعي إلي للفلفة الموضوع والتكتم علي ما حدث. لم تنشط قرون الاستشعار في الوقت المناسب رغم أنه كانت هناك تحذيرات مبكرة فقد تمت اتصالات من جنيف حيث يوجد المجلس الدولي لحقوق الإنسان وفي القاهرة من عدد من الأشخاص والجمعيات التي أشارت إلي وجود اهتمام متزايد بما حدث وضرورة التصرف السريع تحقيقا للعدل والقانون. وأريد أن أربط بين هذه النتائج وما تشير إليه البحوث الميدانية من تراجع لمستوي الثقة العامة في المجتمع ومن أهمها نتائج المسح الاجتماعي للقيم الذي أشرف عليه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء عام2008 والذي أشار إلي أولوية مشاعر الحذر والشك في الآخرين وأن من لديهم ثقة في الآخرين بين الشباب لا يتجاوز16% مقارنة بالمتوسط العالمي وهو23% وأن مصر تشغل المرتبة الأدني من الدول القريبة أو المشابهة لظروفنا مثل تركيا والمغرب وإيران والبرازيل. وبالعكس فإن أعلي مشاعر للثقة تتجه نحو أفراد الأسرة والهيئات الخيرية والإنسانية. كما أوضح البحث أن الثقة ترتبط بالعلاقات الاجتماعية المباشرة ومع الأشخاص الذين يعرفهم الإنسان معرفة شخصية كالأقارب والجيران ثم تقل الثقة بعد ذلك في أي أشكال أو مؤسسات أخري بشكل حاد. وهذا النوع من القيم هو أقرب إلي ثقافة المجتمعات التقليدية التي تقوم الثقة فيها علي علاقات القرابة والمعرفة والجيرة. وليس ثقافة المجتمعات الحديثة التي تنهض علي علاقات مؤسسية ينظمها القانون ويكون التشريع وليس العلاقات الشخصية والاجتماعية هو المحك والقياس والمعيار للسلوك الاجتماعي... القانون هو العنصر الحاسم في الانتقال إلي الدولة الحديثة... وتطبيق القانون علي الجميع هو عنوان المواطنة والديمقراطية وتكافؤ الفرص... هذا هو الدرس الذي يجب استيعابه من عدد من الأزمات التي مرت بنا في الشهور الأخيرة. المزيد من مقالات د. علي الدين هلال