لم تترك مشاهد الصراخ والعويل بسبب امتحانات الثانوية العامة مجالا للانتباه إلي النتائج الأولية لهذه الامتحانات.. فبالرغم من الهستيريا التي انتابت الكثير من الطلاب وأولياء الأمور . وبعض الإعلاميين وأعضاء مجلس الشعب, والاستنفار الذي حدث احتجاجا علي ما اعتبروه امتحانات صعبة في بعض المواد, حملت مؤشرات نتائج هذه الامتحانات البشري.. نفسها التي تتحقق في كل عام. فالأغلبية الساحقة من الطلاب.. الذين تابعنا مشاهد انهيار بعضهم ومحاولة بعضهم الآخر الانتحار.. ناجحون.. وأكثر هؤلاء ينجحون نجاحا ساحقا ويتلقون أحر التهاني وأرفعها بالرغم من أن قليلهم هم الذين يجوز اعتبارهم مؤهلين للالتحاق بالجامعات حسب معايير العصر الراهن. وليس هذا إلا واحدا من مكونات نظام تعليمي أصابه الهزال فصار الهزل طابعه الذي لا يضاهي.. أظهرت النتائج الأولية علي سبيل المثال, أن نسبة النجاح في اللغة العربية تعدت92 في المائة بالرغم من أن جميعنا يعرف أن معظم هؤلاء الناجحين وكثير منهم بأعلي الدرجات لا يستطيعون كتابة عدد كبير من الكلمات التي ينطقونها يوميا, وأن أخطاءهم الإملائية تفوق ما كان تلميذ في الصف الثالث الإبتدائي يقع فيه قبل20 عاما. ولكن هذا قد لا يكون هو أكثر الجوانب هزلا في البكائية السنوية, التي يبدو فيها قطاع واسع في المجتمع فاقد العقل والاتجاه في تعامله مع امتحانات صارت هي والمهزلة سواء. فالهستيريا المواكبة لهذه الامتحانات تزداد بالرغم من أن القيمة الفعلية للنجاح فيها قلت.. كان منطقيا إعلان شأن امتحانات الثانوية العامة, وحشد كل غال ونفيس من أجلها عندما كانت بوابة عبور إلي تعليم جامعي كان هو بدوره المعبر الأساسي للحراك الاجتماعي, كان مفهوما اعتبار هذه الامتحانات مصيرية في مرحلة أتيح فيها لخريجي الجامعات الحصول علي عمل في مكان ما بغض النظر عن قدرتهم علي أدائه. أما وقد صار الربط بين المؤهل الجامعي وفرصة العمل تاريخا مضي, في عالمنا الراهن عموما وليس في بلادنا فقط, تصبح هستيريا الثانوية العامة جزءا من حالة عصبية تسود المجتمع وتعبيرا عن أحد تجلياتها, وليست نتيجة لمشكلة في الامتحانات. لقد تغيرت المعطيات التي شكلت العلاقة بين امتحانات الثانوية العامة ومستقبل الطلاب تغيرا جذريا, ولكن طريقة تعامل المجتمع معها لم تتغير, فهذا مجتمع عاجز عن التطور لأن الإطار الذي وضع فيه منذ أكثر من نصف قرن أضعف قدرته علي الفعل والمبادرة والابتكار, وبالرغم من أن العقد الاجتماعي الذي تسبب في ذلك انقضي فعليا, فما زال تطورالمجتمع محتجزا لأن الدولة( الطرف الآخر في هذا العقد).. لا تريد استبداله ولا تدرك أخطار الحالة الضبابية المقترنة بعقد اجتماعي تقادم دون أن يحل محله عقد جديد. وهذه حالة معقدة نلجأ عادة إلي تسطيحها عندما نعجز عن تبسيطها علي نحو يبشر التعامل معها.. فالحكومة التي تختزل فيها الدولة حين يضعف المجتمع, تظن أن هذا المجتمع لم ينضج إلي المستوي الذي يجعل تجديد العقد الاجتماعي ضروريا. والمجتمع الذي يطالب الكثير من نخبته وقليل من جمهوره بعقد اجتماعي جديد ما زال أسير العقد القديم, فهو يتطلع إلي الدولة وينتظر منها حل مشاكل يستطيع التعامل معها إذا تحرر من ذهنية الاعتماد عليها واللجوء إليها, وأخرج نفسه من القمقم.. الذي حبس فيه بموجب العقد الاجتماعي القديم, فقد قام ذلك العقد علي أن تتولي الدولة رعاية المجتمع وأفراده في مقابل التخلي عن حقه في المشاركة في إدارة الشأن العام والالتزام بالطاعة. وهذا هو مصدر الضباب الذي يخيم علي سماء مصر الآن.. فالعقد الاجتماعي القديم لم يعد يعمل, والمقومات اللازمة لتجديده لم تتوفر بعد لأسباب تتحمل الحكومة والمجتمع مسئولية مشتركة عنها, وفي مثل هذه الحالة( الضبابية).. يمكن فهم كيف يعتقد كل من طرفي العقد الذي تقادم أنه علي حق, إذ ينتظر المجتمع من نظام الحكم مبادرات إصلاحية تضع الأساس لعقد اجتماعي جديد دون أن يكون مستعدا لذلك, في حين أن الحكومات تقدم في العادة علي مثل هذه المبادرات حين تجد نفسها مضطرة إليها. ويمكن أن نجد في مشهد هستيريا الثانوية العامة ما يدل علي هذه الحالة الضبابية, حيث يبدو علي السطح أن كلا من الطرفين( الحكومة والمجتمع).. علي حق. فقد أصابت الحكمة.. ممثلة في وزير التعليم.. عندما أرادت امتحانات تقيس قدرة الطلاب علي فهم المناهج الدراسية, ولا تكتفي باختبار مدي سعة ذاكرتهم وامتلائها بنصوص هذه المناهج, فهذا هو هدف الامتحان في أي نظام تعليمي في عصرنا الراهن, وهذا هو ما طالب به ناقدو نظامنا التعليمي البائس الذي لم يدخل العصر الحديث بعد قرنين علي التحاق مصر به. كما أصاب المجتمع, ممثلا في الطلاب وأولياء الأمور والمتعاطفين معهم, لأن إصلاح نظام تعليم بائس لا يمكن أن يبدأ من الامتحانات لأنها هي الحلقة الأخيرة وليست الأولي فيه فهم علي حق حين يفزعون من امتحانات من خارج نظامنا التعليمي الذي يقوم علي تنمية الذاكرة, وليس علي تحفيز العقل, ويرمي إلي حشو الدماغ بكلام يحفظه الطالب ويحافظ عليه إلي أن يتخلص منه في ورقة الإجابة وكأنها سلة يلقي فيها مهملات ناء كاهله بها. ولا يمكن أن يكون طرفا خلاف من هذا النوع علي حق إلا في حالة ضبابية يفتقدان فيها المرجعية التي يوفرها العقد الاجتماعي حين يتوافقان عليه ويلتزمان به, وإذا كان أحد طرفي الخلاف غير راغب والثاني غير قادر علي التقدم نحو هذا العقد الاجتماعي, فقد أظهرت هستيريا الثانوية العامة أن الأطراف التي يمكن أن تساعد في هذا المجال ليست أفضل حالا مثل الإعلام والبرلمان. فقد رسب الإعلاميون.. إلا القليل منهم.. مجددا في اختبار الموضوعية والمهنية الأكثر أهمية من امتحانات الثانوية العامة, إذ قاد فريق منهم حملة ترويع ساهمت في ازدياد حدة الهستيريا المصاحبة لهذه الامتحانات, وأكد البرلمانيون الذين شاركوا في صنع هذه الهستيريا أن وجودهم تحت القبة هو أجزل تعبير عن حالتنا الضبابية الراهنة, فلا يمكن أن يكون لمثل هؤلاء مكان في البرلمان حين يتم تجديد العقد الاجتماعي بما يترتب عليه من تغيير طابع الانتخابات التي يجيدون أساليب الفوز فيها.