أذكر أنه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي, انتشرت علي نطاق واسع تقارير تحذر عن علم من مشكلة التصحر, التي تنتج عن ظاهرة تغير المناخ, المدمر الذي يهدد الحياة علي كوكب الأرض, مما آثار الرعب في قلوب الناس. وسط هذه الأجواء المقلقة إذا بموجة من السيول والأمطار تجتاح العالم بصورة غير مسبوقة, عكس كل توقعات الأرصاد التي كانت تنذر بعكس ذلك, فقال أبي( رحمه الله): وما أوتيتم من العلم إلا قليلا, إن الله يعطينا درسا حتي لا نطمئن إلي صحة توقعاتنا! فتعجبت وسألته: هل تسخر من العلم الذي لطالما دعوتنا إلي الارتكان إليه, والتزود ما استطعنا منه, وأن العلم والعقل والمنطق هي أدواتنا للتقرب إلي الله سبحانه وتعالي, للمحافظة علي الحياة وإعمار الأرض؟! فأجاب بتواضع يشي بعمق إيمانه وتقواه اللذين صقلتهما الحضارة بأصولها: لا, ولكن لا يعجبني غرور العلماء الذين ينسون أن فوق كل ذي علم عليم, فيظنون أن باستطاعتهم التنبؤ بالمستقبل, وإحكام السيطرة علي الأقدار, وهو ما فوق طاقة البشر, ومن تواضع لله رفعه! بالفعل أثبت العلم صحة هذه النظرية.. أن العالم خارج السيطرة مهما أوتينا من العلم, فيما يعرف بنظرية الشواش, أو الفوضي, وهو تعبير مجازي عن النتائج العشوائية غير المتوقعة, نتيجة عدم إدراك الفروق البسيطة في الحسابات الأولية, التي يمكن إغفالها لضآلتها, لكنها تؤدي بعد تأثيرات وترابطات خفية متواترة إلي نتائج هائلة غير متوقعة, وبدأت هذه النظرية في الستينيات من القرن الماضي, علي يد خبير الأرصاد الجوية إدوارد لورينز, الذي أدخل إلي الحاسب الآلي سلسلة من الأرقام للتنبؤ بالطقس, لكنه بالصدفة أدخل الأرقام بكسور عشرية ثلاثة بدلا من ستة, علي اعتبار أن هذه الفروق الضئيلة لن تؤثر في النتائج النهائية, وكانت المفاجأة أن تطور التسلسل الحسابي بعد إلغاء الأرقام الضئيلة في البداية, كان هائلا في النهاية, فكمية الاختلاف الضئيلة من بداية المنحنيات رسمت منحنيات مختلفة تماما عن المنحنيات الأصلية بالأرقام الأصلية. الطريف أن هذه المنحنيات تأخذ أشكالا فنية رائعة, مع كل تغير ضئيل في بدايتها, فسبحان الله الذي جعل مواطن الجمال وقدرته تظهر في آيات الكون كلها, حتي في الحسابات الرياضية! سميت نظرية الفوضي بتأثير الفراشة للتعبير عن العوامل الأساسية الضئيلة, ولو كانت بمقدار خفقان جناح فراشة لا يذكر, قد تكون لها نتائج هائلة فقد تؤدي إلي إعصار هائل في منطقة ما في العالم, ولهذه النظرية تطبيقات في مختلف العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية, عن تأثير العوامل الأساسية حتي ولو بسيطة, لكن تفاعلاتها المتتابعة تخرج عن نطاق التوقع العلمي, لذا يسميها البعض الفوضي الخلاقة مثل كونداليزا رايس التي بشرتنا بها علي أنها شيئ طيب, سينتج من تقويض الدول السلطوية, بينما ما حدث من خراب لم يكن إلا بالسماح لتفاعلات تأثير تلك الفراشة الملعونة من الأفكار الطائفية والمذهبية, التي كنا نظن أنها دفنت في مقابر التاريخ, لتحل محلها مفاهيم الحداثة والدول الديمقراطية المتقدمة, فإذا بالانقسامات المذهبية تعود للحياة بعنف غير متوقع للحكام والمحكومين, ومازال العصف مستمرا, ليمزق في البلاد العربية بأيد عربية, محطمة الغرور السياسي والاجتماعي والاقتصادي لكل السلطات, فهل هناك فراشات أخري غير متوقعة يمكن أن تنقذ الشعوب العربية من الخراب الذي حل بها؟ ربما يحتاج ذلك لتأملات أخري بلا غرور, في الرموز الوطنية الحضارية الخالدة القادرة علي التأثير, علي رأسها فراشة سعد زغلول ومعاصريه, ورحمة الله عليك يا والدي العزيز! أكاد أسمعه يقول: لا تقنطوا من رحمة الله, فأنتم لا تدرون تأثير تلك الفراشة! المزيد من مقالات وفاء محمود