المشهدان في المنتجع الأوكراني المطل علي البحر الأسود متناقضان تماما, ناس عنوانهم الشباب وقبلتهم البحر, وناس فاتهم الزمان, وسكنوا أطراف القري وسفوح الجبال. تركت الأولين وذهبت للآخرين, سألتهم عما جري, صمتوا, تحججوا بالذاكرة التي وهنت, وعندما حاولوا ما أستطاع أحدهم أن يحكي الحكاية كاملة, مشهد أو مشهدان, ثم يمضي الحاكي عميقا دارنا ما زال كما كان هنا, لكن سكنه الآخرون, عندما عدنا من مهجرنا وجدنا الحال هكذا, فلجأنا إلي أطراف المدن, هنا كانت لنا حياة قديمة, وباتت لنا الآن حياة جديدة, وما بينهما كان الممات, تخيل أنك جالس في بيتك, ثم فجأة يطرقون بابك ويبلغونك بالقرار, أنتم خونة وعقوبتكم الإبعاد, كنا في حاجة إلي زمن حتي نفهم, لكنهم لم يسمحوا لنا إلا بحوالي ربع الساعة لنلملم أشلاءنا, كيف يمكن لحكم أن يصدر دون دفاع, كيف لثورة ترفع شعارات الحرية والمساواة والعدل أن تقر مبدأ العقاب الجماعي لشعب بأكمله تكدسنا مثل الشاة في عربات قطار صدئة, كدنا نختنق, البعض يمسك بالبعض, والكل في دهشة, الصغار والعجائز والمرضي كانوا أول الضحايا, أسوأ أنواع المصائب تلك التي لا تفهمها, صرير باب القطار وهم يغلقونه علينا مشابه لصوت باب المقبرة عندما تغلق عليك, نعم لم أمت من قبل حتي أجرب, لكن مت فعلا في هذه الرحلة حوالي أربع أسابيع في هذا القطار اللعين, تكفي لإستحضار التاريخ, كم بذل القياصرة الروس من جهد لإحتلال القرم, حتي نجحت الإمبراطورة كاترين الثانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في هزيمة العثمانيين, لتبدأ سياسة إبادتنا وإبعادنا, حتي تناقص عددنا من حوالي ستة ملايين نسمة في زمانها, إلي أقل من ثلاثمائة ألف نسمة حين اندلعت الثورة البلشفية أنت تلح علينا في الحديث وقد هرمنا, تلاشت تفاصيل الجريمة وأستقرت آلامها, حين كان يموت أحد منا في قطار الموت, كانوا يفتحون الأبواب ويرمون جثته علي الطريق, أو في أي ممر مائي كنا نمر فوقه, دون أن تدفن ودون أن يتوقف القطار, لقد شردنا ستالين في الحياة وفي الممات ذلك الرجل الذي أتهمنا بالخيانة أبان الحرب العالمية الثانية, حين أكتسح الألمان ديارنا في شبه جزيرة القرم, أنضم قليل منا إلي خصومه أملا في الخلاص من الشيوعية, لكن أعدادا كبيرة جدا منا انخرطت في صفوف جيشه, وبعد أن أنتصر أداننا جميعا وقرر تهجيرنا أصابنا الجوع وعطشنا ومرضنا, شبابا وشيوخا ومعاقين وصغارا وأطفالا رضع, ترفع رأسك إلي السماء فلا تجد إلا سقفا صدئ, وبعضا من الذكريات تطير إلي بخش سرايا, تلك التي كانت يوما عاصمتنا نحن تتار القرم, بيت الوالي وديوانه ومسجده, النقوش والأزهار والحدائق والماء المنساب, وحضارة مشعة, ودولة عظيمة وصل جيشها إلي أسوار موسكو نصل نحن إلي المهجر, متسخين, جلدونا مشققة, ومعداتنا خاوية, أسكنوا كل عائلة في ركن من حظيرة للخيول, العذاب أنواع أشدها شتاء حين تنخفض درجة الحرارة إلي ثلاثين درجة تحت الصفر, لا طعام ولا عمل, إلا من سيق إلي مزارع القطن, والباقون يبحثون عن قوت يومهم بين القمامة, ثم يعودون بها إلي الحظيرة علي نار الحطب يحاولون أن يعيدوا لها شيئا من سماتها, ثم يلتهمونها كي لا يموتوا جوعا, لكن منا من مات بردا أو مرضا, ثم توفي كبار السن ولم يعد بين الأحياء من يجيد قراءة الفاتحة علي أرواح موتانا كل حكاياتهم شوق وشجن, أنظر إلي اللوحة, وجوه باكية تطل من كل مكان, قال لي الرسام إنني أعمل بها منذ خمسة عشر عاما مع لوحاتي الأخري التي تراها, ولدت في المهجر, ولم أجد وثيقة مصورة عن جريمة الإبعاد, فلجأت إلي حكايات الناس, ومنها أطلقت لريشتي أن تتصور ما جري وتنقشه كما تري رسوما توثق لهذه الجريمة, أطلقت علي لوحاتي أسم كي لا ننسي إحداهن كدت أن أتحدث معها بالعربية, أشعرتني أنني أعرفها جيدا, نفس ملامح الجدة المصرية العجوز الطيبة قالت لي سأخبرك شيئا, حين قاموا بترحلينا لم نتمكن من جلب أشيائنا الخاصة, لكن بعضنا نجح في أن يأتي بصكوك البيت, والأهم المصحف الشريف, أصطحبته معي هناك أكثر من ستين عاما وهآنذا أعود به قال شاب كان أبي يكرر دوما عائدون عائدون, كان يصلي من أجل ذلك ليل نهار, توفي في شهر رمضان, وعدت أنا, رائعة لوحتك يا فنان, قلت أنا, زدت لكن تلك المشاعر أقوي منها, وأقوي من فيلمي, وأقوي من كتاباتي, قال الشاب لكلينا لكنكما علي الأقل توثقان ما يراد له أن يغفل في دكانة صغيرة مظلمة, كان يجلس العجوز يحفر وينقش الحلي, كان عمري ستة عشر عاما حين وقعت الواقعة وعندما عدت ذهبت إلي متحف قصر الخان لأري بعض الأعمال القديمة من المسبوكات التي تحفظ تراثنا, الحلي التتارية فريدة من نوعها, ولعل لديكم في مصر مثلها, وأنا أريد الحفاظ علي ذلك من أجل إعادة إحيائها, يجب ألا تغيب تقاليدنا, ما أقوم به في هذا المكان الفقير ليس سوي توثيقا لتاريخ قومي حتي لا يندثر, أدرك في عيناي سؤالي, قال حين تفكر في وطنك وفي دورك فإن من العبث أن تضيع وقتك بحثا عن عمل كبير ضخم, يمكن أن يغير العالم, أفعل مثلي ما تستطيع فعله, الآن وحالا, فكل كبير يبدأ بصغير, أزاح وجهه عني وواصل فريضة التوثيق.