لعل الملمح الاستراتيجى الأبرز منذ احتلال العراق عام 2003م يتمثل فى التدهور النسبى لمكانة القوى المركزية فى النظام العربى وخاصة دول المحور الثلاثى (المصرى، السورى ، السعودي) الذى كان قد هيمن على اتجاهات القرار العربى منذ ساند الشرعية الدولية فى حرب تحرير الكويت 1991م، وذلك بتأثير صعود اليمين الأمريكى المحافظ الذى استحال ضاغطا على المنطقة، غير قانع بأنماط التأثير السابقة فيها عبر بوابة التفاهمات مع دولها الكبري، وقد انعكس ذلك التطور فى ظواهر ثلاث أساسية: الظاهرة الأولى هى البروز المفتعل لدول صغرى أخذت تلعب أدوارا استثنائية تفوق أحجامها الطبيعية ضد التوجه العربى العام، وذلك بقفزها على توازناته الإستراتيجية فى أكثر من مناسبة وفى غير اتجاه، على منوال قطر وما أقامته من علاقات اقتصادية مع إسرائيل دون ضرورة سياسية أو غاية قومية، أو ما تتورط فيه حتى الآن من تحالف مع إيران على حساب علاقاتها بمصر ودول الخليج، والأمر نفسه تقريبا يصدق على علاقتها بتركيا. وأيضا الدور المربك الذى لعبته ليبيا قبل عاصفة الربيع العربي، حث سعى الرئيس الراحل معمر القذافى مرارا ونجح كثيرا فى إشاعة الضوضاء فى التجمعات العربية بحضوره الزاعق وإثارته القضايا الهامشية، وإشعاله حرائق مفاجئة استقطبت جهدا كبيرا لإطفائها من الطاقة العربية المحدودة أصلا، والتى لم تكن تكفى لمواجهة الأعباء الملقاة على الدول والقيادات الأكثر جدية ومسئولية فى آن. والظاهرة الثانية هى البروز الفاعل لحركات المقاومة المسلحة على منوال حزب الله وحماس، واحتلالهما مكانا بارزا على ساحة التفاعلات العربية، فى حفز الأحداث وصناعة المواقف، وإثارة الاهتمام لدى الشارع السياسي. هذا البروز يبقى أمرا إشكاليا، فمن زاوية إيجابية نجد أنه قد ملأ فراغا فعليا فى مركب التعاطى مع التحدى الإسرائيلي، لولاه ما تمددت تلك الحركات أو ولدت من الأصل. ومن ناحية أخري، صار أمرا مربكا إذ يضع قرارات خطيرة كالحرب والسلام، تولد أعباء على الأمة كلها فى يد حركات تبقى حساباتها ضيقة ومحدودة، وخصوصا فى مواجهة عدو شرس وهمجي، ليست لديه حدود أو قيود على استخدام آلته العسكرية الضخمة كما تبدى الأمر فى العدوان الإسرائيلى على لبنان 2006م. وفى محرقة غزة 2008م، وما تلاها من اعتداءات أقل حدة وأضيق نطاقا، ما يجعل المحصلة النهائية لبروز تلك الحركات سلبية وأحيانا كارثية من وجهة النظر القومية. وأما الظاهرة الثالثة فهى الحضور الطاغي، للقوى الإقليمية الكبرى فى القضايا العربية، ليس فقط المشتبكة بالنظام الدولي، بل أيضا فى القضايا التى تنبع وتصب داخل الأرض العربية نفسها، خصوصا الحضور الإيرانى عبر حماس فى فلسطين تكريسا للخلاف مع فتح، وتعميقا للقطيعة بين الضفة وغزة. وأيضا لدى حزب الله على نحو زاد من تصلبه فى مواجهة الإجماع اللبناني، ومنحه قدرة فائقة على تعطيل قرار الدولة اللبنانية. ناهيك عن الدور الإيرانى فى العراق، حيث تقود ردة الفعل الشيعية النازعة إلى الهيمنة على النظام السياسى العراقي. وأيضا الحضور التركى السلبى فى سوريا وفى ليبيا، وتحالفها مع قطر باسم الإسلام السياسى فى طبعته الإخوانية، بهدف قلقلة مصر وإثارة المشكلات لها سواء فى محيطها الإقليمى أو بينها والعالم الخارجي. فى هذا السياق تتبدى أزمات المنطقة طيلة هذا القرن كمحصلة لعاملين أساسيين: أولهما هو الضغط الخارجى/الأمريكي، سواء من المحافظين الجدد إبان ولايتى الرئيس بوش الابن، أو من الدعم الذى قدمه الرئيس أوباما فى ولايته الثانية خصوصا لجماعة الإخوان المسلمين عقب الربيع العربي، على نحو أربك مشهده وعطل دوله عن بناء المشروعية المدنية الديمقراطية، خصوصا فى مصر، التى وصلت فى ظل حكم الجماعة إلى طريق مغلق. أو من الرئيس الحالى ترامب الذى تخلى عن دعم الإخوان المسلمين، مفضلا عليهم نظم الحكم القائمة ولكنه أخذ يبتز الجميع فى الملف الفلسطينى لصالح إسرائيل مقدما لها خدمتين فائقتين: نقل عاصمة بلاده إلى القدسالمحتلة، وموافقته على ضم إسرائيل هضبة الجولان السورية، ولا يزال الرجل يخطط لإنهاء القضية الفلسطينية بأشكال مختلفة، من بينها صفقة القرن التى ينتظر العرب إعلانها، فيما هى تمارس بالفعل عبر القضم من الأراضى الفلسطينية، من دون إعلان عنها أو حتى دفع ثمن لما يتم قضمه فعليا من أراض. ويتبع هذا الضغط الإسرائيلى الذى لا يكاد يتوقف، خصوصا بعد تراجع اليسار الإسرائيلى بذبول حركة كالمؤرخين الجدد، وتدهور حركة ما بعد الصهيونية، مع صعود اليمين الدينى والسياسى إلى صدارة المشهد السياسى الإسرائيلي، ودخول أجنحته المختلفة فى مزايدة جوهرها التشدد ضد الحق العربي. وثانيهما هو حالة الاحتقان الداخلى النابعة من واقع الاحتراب الطائفى والانقسام المذهبى كمحفز لحال الاستقطاب بين معسكرين، عموم العرب السنة من ناحية، وإيران وبعض العرب الشيعة من ناحية أخري، على عامل الزمن لإنجاز تصوره، وهزيمة التصور الآخر، أى من خلال ثباته هو على موقفه، بينما تقود الأحداث إلى تآكل موقف الآخر. فى هذا السياق تكتسب القدرة على التعطيل والإفشال أهمية تفوق القدرة على الفعل والمبادرة، لأن الأخيرين يستلزمان تعاطيا مرنا سياسيا مع المشكلات، ما يدفع نحو تنازلات وحلول وسط، لا يود كلا الطرفين أن يتحملها، باعتبار ذلك نكوصا عن الثوابت المريحة أو خطوة فى الفراغ. لا شك هنا فى قدرة المعسكرين على إفشال حركة بعضهما البعض، فمن السهل ممارسة تكتيكات الممانعة والدفاع السلبي، غير أن هذه القدرة مهما تنامت لا يمكن نسبتها إلى النجاح الإستراتيجي. فقد يستطيع طرف أن يخسر أقل من الآخر بفعل ضغط الحوادث وتسارعها، وقوة فعل الأطراف الخارجية، وقد يتصور هذا الطرف أو ذاك أن صغر حجم خسارته قياسا إلى الآخر، يعد مكسبا، ولكن الحقيقة التى سوف تتبدى لكلا الطرفين بعد انتهاء السياقات الاستثنائية، أن الجميع خاسرون، وطنيا وحضاريا، وأن ما نعيشه الآن من تجاذبات وتناقضات ليس إلا صراعات زائفة، نتجت، جزئيا، عن ارتهان الطرفين للمشروع الصهيوني، الذى يعود ليتغذى على تلك التناقضات من جديد، كى يتمدد فى الفراغ السياسى داخل القلب العربى. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم