تناولنا فى المقال السابق العديد من الاثار الناجمة عن السياسة الاقتصادية المتبعة فى إطار الاتفاق مع الصندوق، ويصبح التساؤل الآن حول دور برامج الصندوق، فى هذه العملية؟ على الرغم من الجدل النظرى الشديد حول هذه المسألة، خاصة إن الدراسات العملية مازالت أقل بكثير مما هو مطلوب، رغم انها ستكون صاحبة القول الفصل، فى حسم هذا الجدل، لأنها عملية معقدة للغاية ويكتنفها العديد من الصعوبات، فى ظل ضيق الفترة الزمنية المطبقة فيها هذه السياسة، فضلا عن تداخل العديد من العوامل المؤثرة فى حركة الاقتصاد ككل. ومع الأسف، لا تقدم التجارب الاقتصادية إجابات قاطعة، على غرار ما تقدمه العلوم الطبيعية، وذلك لأن الاقتصاد يخضع لتأثير عدة قوى فى آن واحد، ويحاول المحللون عدم إغفال بحث تأثير أى قوى عند قياس آثار سياسات معينة، بيد أن قصور البيانات والأساليب الإحصائية، يحول دون ضمان النجاح الكامل لهذه المحاولات. ورغم ذلك فإن الدراسة التطبيقية مازالت ممكنة، خاصة بعد أن أنهت الحكومة تطبيق البرنامج بالكامل، الأمر الذى يمكننا من استخلاص النتائج والدروس المفيدة بالنسبة للمستقبل. إذ نرى أن الحكم بالأساس على مدى نجاح أى سياسة اقتصادية يجب أن يقاس بمدى التحسن فى مستويات المعيشة. وهذه المسألة ترتبط بمنهجية التقييم الواجب اتباعها، وهنا توجد أربعة مناهج أساسية، أولها يتعلق بالمقارنة بين النتائج المترتبة على تطبيق هذه السياسة، مع الأوضاع التى كانت ستؤول إليه إذا ما استمر الوضع على ما كان عليه.وثانيها خاص بتقييم السياسة فى ضوء الأهداف المطروحة عليها، ومدى ما تحقق منها (أى قبل وبعد البرنامج). وثالثها خاص بالمقارنة بين النتائج المترتبة على هذه السياسة والأوضاع فى ظل سياسة بديلة. واخيراً يتم التقييم فى ضوء الأهداف العامة للمجتمع، ونظرا للصعوبات العديدة التى تكتنف المنهجين الأول والثالث، فإن التقييم يمكن أن يتم فى إطار النتائج الفعلية ومدى ملاءمتها مع طبيعة المشكلات الاقتصادية فى الواقع المصري. مع الاخذ بالحسبان أن الفكر الاقتصادى يشير إلى أن نجاح سياسة اقتصادية معينة، يتوقف على تحقيق مجموعة من الشروط، مع ضمان استمراريتها، وهى تتعلق بالأساس بتحقيق معدل نمو للناتج المحلى الإجمالي، يفوق معدل النمو السكاني، حتى يمكن تحقيق التحسن فى مستويات المعيشة، وإيجاد المزيد من فرص توظيف لجميع الداخلين إلى سوق العمل، والوفاء بمتطلبات الاستقرار فى الأسعار، مع توزيع ثمار النمو على جميع فئات المجتمع، والحد من التفاوت فى توزيع الدخل، مع حماية البيئة حتى يمكن الحفاظ على نوعية الحياة بالنسبة للأجيال القادمة من هذا المنطلق يمكننا مناقشة الآثار الناجمة عن تطبيق برنامج التثبيت الاقتصادي، حيث نلحظ على الفور أن الفقر فى المجتمع قد زاد مع ارتفاع معدل التضخم، إذ يشير بحث الدخل والإنفاق إلى أن نسبة الفقراء فى مصر قد زادت من 27.8% عام 2015 الى 32.5% عام 2017. اما بالنسبة لتطور نسبة الفقر المدقع فقد عاودت الارتفاع فى عام 2017 لتصل إلى 8%، وهى ظاهرة خطيرة بكل المقاييس تعكس عدم المساواة فى توزيعات الدخول، وقصور سياسات النمو الاقتصادى فى إحداث التقارب بين هذه المستويات، ومن ثمّ انطلاق الدعوة لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومما يزيد من تعقيد المشكلة الأوضاع الحالية للفقراء، والذى يوصف بأنه غير عميق، بمعنى أن معظم الفقراء يقعون تحت خط الفقر مباشرة، وبالتالى فإن قيمة المبالغ المطلوبة لتغطية العجز السنوى لهم حتى يتخلصوا من فقرهم ليست كبيرة. ولكن هناك شريحة لا بأس بها تقع فوق خط الفقر مباشرة، أى الطبقة الوسطى الدنيا، وهى أكثر حساسية لأى تقلبات تحدث فى الأسعار والدخول، وأكثر عرضة للانزلاق إلى الفقر حال تغير دخولهم وقد أحسنت الحكومة صنعا فى التدخل لمعالجة بعض هذه الآثار عن طريق التوسع فى بعض برامج الحماية الاجتماعية مثل تكافل وكرامة وكذلك تحسين دخول العاملين بالدولة وأصحاب المعاشات، ولكنها تظل فى حاجة الى المزيد من الإصلاح. ومن المشكلات الأخرى التى ظهرت هى ارتفاع حجم وقيمة الدين العام (المحلى والخارجي)، وهنا تشير الإحصاءات إلى أن إجمالى الدين العام المستحق على أجهزة الموازنة (المحلى والخارجي) قد ارتفع فى نهاية يونيو 2017 الى 4315 مليارا نهاية يونيو 2018 ويصل الى 4626 مليارا نهاية ديسمبر 2018 مع ملاحظة ان نسبته الى الناتج قد انخفضت من 108% الى 97% والى 85% خلال نفس الفترة وارتفعت قيمة خدمة الدين الحكومى (داخلى وخارجي) من 590 مليارا عام 2016/2017 الى 703 مليارات عام 2017/2018 شكلت الفوائد نحو437 مليارا بنسبة 35% من اجمالى مصروفات الموازنة وبلغت الأقساط المسددة خلال نفس العام نحو267 مليار جنيه كما يلاحظ أن هناك ثباتاً نسبيا فى قطاعات الإنتاج السلعي، بل وتراجعها، إذا ما استبعدنا النفط ومنتجاته، ناهيك عن ضعف الإنتاجية، ولا يخفى ما لذلك من آثار خاصة ان القطاعات الاقتصادية تتشابك مع بعضها البعض، الأمر الذى يؤدى إلى استمرار الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد، والتى تظهر من خلال عدة مؤشرات، أهمها انخفاض معدل التشغيل والذى يقدر بنحو 39% عام 2018 وتراجع الطلب الكلى فى المجتمع. إن ما تم من إجراءات حتى الآن، لا يمثل سوى خطوة نحو تحقيق أهداف التوازن الاقتصادي، وبالتالى لابد أن تتبعها سياسات موائمة لتحرير جانب كبير منها. فالانتقال إلى مرحلة رفع معدلات النمو وزيادة معدلات التشغيل يتطلب رفع الطاقة الاستثمارية وحل مشكلات الطاقات العاطلة، إذ تشير الإحصاءات الى ان عدد المصانع التى تعمل بأقل من طاقتها الإنتاجية بنسبة 75% يصل الى 8218 مصنعا من اجمالى 13 ألف مصنع، أى بنسبة 63% وإصلاح الهياكل التنظيمية والمؤسسية للاقتصاد المصري، ذلك لان سياسات إدارة الطلب هى بطبيعتها سياسات قصيرة الأجل، ويكون نجاحها على حساب مستويات التشغيل والإنتاج، فى حين أن الهدف النهائى من العملية الإنتاجية هو رفع معدل النمو، لكى ينعكس على مستويات معيشة ورفاهية الأفراد. ولا شك ان القضاء على هذه المشكلات يتطلب الانتقال إلى المرحلة الثانية والأهم فى الاصلاح، ونقصد بها تحديدا قضايا الإنتاج والإنتاجية من خلال التوسع المنظم والفعال فى بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى