عدت أطالع بعض مؤلفات الأديب الشهيد يوسف السباعى، وعلى وجه الخصوص هذه المؤلفات التى تناول فيها الوجود الإنسانى بين طرفى الموت والحياة، محاولا إعداد رؤية أدبية أعرض فيها فكرته عن جدوى الوجود فيها من عدمه. ومن بين قراءاتى الكثيرة والمتكررة لإنتاجه الأدبى الضخم والمتنوع، لا أعرف لماذا رأيت وقررت أن أبدأ بقراءة ودراسة مجموعته القصصية (يا أمة ضحكت) التى صدرت سنة 1948 وهو لايزال بعد شابا يافعا فى بداية حياته العملية كضابط فى الجيش المصرى وحياته الأدبية أيضا، حيث وصل إلى صفوفها الأولى. وعلى الرغم من قراءاتى الكثيرة والمتعددة لهذه المجموعة القصصية المتميزة، فقد وجدتنى أكتشف حقيقة أنها قصة غريبة ومدهشة، وتعجبت كيف فاتنى اكتشافها والانتباه إليها فى كل قراءاتى السابقة والكثيرة لها، فماذا وجدت فيها من جديد؟!. لقد اكتشفت أن الأديب الكبير يوسف السباعى، قدم للقراء قصة حياته بتفاصيلها وحادث اغتياله الغادر الأثيم برصاص الجهل والتعصب الأعمى، وذلك فى قصة (بصقه على دنياكم) وموته ضربا بالرصاص وحياة وموت الأديب يوسف السباعى، فكيف كان هذا التشابه والتطابق بين حياة وموت المؤلف يوسف السباعى وبطل قصته؟!. هذا هو موضوع هذه السطور التى أتناول فيها قصة (بصقة على دنياكم) وبطلها ومؤلفها أيضا بالعرض والتحليل. القصة وبطلها: نبدأ أولا بمحاولة لتلخيص القصة، معترفا بعدم إمكان نجاح أى محاوله لتلخيص أية قصة قصيرة متميزة، آملين ألا يغنى هذا التلخيص عن قراءة القصة نفسها حتى تكتمل للقارئ العزيز الصورة التى قد لا نحسن نقل وتوصيل كل ما كان المؤلف يريد توصيلة لقارئها.ولكننا على أية حال سنضطر لتلخيص القصة بقدر ما نستطيع: تبدا القصة بسؤال: «الدنيا؟!.. ما هى الدنيا؟!» عن هذا السؤال السهل والصعب معا، تأتى محاوله أولية وبسيطة للإجابة:الدنيا... زينة الليل، سخرة النهار، يجلوها الظلام، ويكشفها الصباح. ما شئت بالدجى من أنوار ساطعة وزخارف لامعة، وبالنهار مصابيح عمياء وأدوات بلا ماء ولا رواء. الدنيا ستار تمثيل حقير فى ذلته، أما ما تراه من جماله وروعته، فإنه باطل من تزوير الدنيا وخدعه من تمويه الأنوار!. وبعد كل من السؤال السهل الممتنع عن ماهية الدنيا، والإجابة الأولية البسيطة عليه، يحاول السباعى أن يقدم لنا الدليل على صحة إجابته والبرهان على سلامة رأيه من خلال قصة يعرض لنا فيها لطفل صغير لم يطلق علية اسما ليكون هو راوى القصة وبطلها ومؤلفها أيضا ونرى الطفل واقفا فى الزحام ليشاهد الموكب الملكى إلى البرلمان، ومن كل الموكب الكبير لا يستلفت نظره ولا يشد انتباهه إلا ذلك الضابط الفارس المتأنق والمتألق الذى يتقدم الموكب بحصانه الأبى، وإذا بالطفل الصغير لا يتمنى من كل دنياه إلا أن يصبح ضابطا فارسا مثل ذلك الضابط الذى رآه فى مقدمة الموكب الملكى، وإذا بنا نسمع الطفل يهمس: «وبدا لى كأنه إله وملأنى إعجاب شديد به وتمنيت أن أكون مثله فى يوم من الأيام». وتمر الأيام ويكبر الطفل ويتحقق أمله ويصبح ضابطا فارسا ويشترك فى أحد المواكب المماثلة لذلك الموكب الذى رآه فى طفولته، ولكنه عندئذ يكتشف المتاعب الكثيرة والمشكلات الصعبة التى يعانى منها ولكنها لا تظهر للعيان بل تختفى وراء المظهر البراق، وعندئذ يقول لنفسه بحزن وأسى «قد خاب ظنى وأملى، لا لأنى لم أبلغه، بل لأنى قد بلغته وشتان المنظر عندما رأيته ولما بلغته». وما أعجب هذا التعبير عن خيبة الأمل ليس بسبب عدم تحقيقه ولكن بسبب الوصول إليه وتحقيقه. ولما أصبحت الفروسية شيئا لا قيمة له بالنسبة لبطل القصة، فقد اكتشف هدفا جديدا واملا كبيرا يسعى إليه ويعمل لتحقيقه، وهو أن يصبح رجل فكر ورأى وصاحب قلم يحرك القراء ويقودهم، رجل جوهر يشعل الأذهان وليس رجل مظهر يكتفى بالبريق واللمعان ويسعى ويساعده الله وتخدمه ظروف الحياة فيصبح كاتبا مشهورا وكبيرا ينتظر الناس مقالاته ويتأثرون بكتاباته وحينئذ يهمس قائلا: «لقد أصبحت مرة أخرى ذلك الرجل الذى تمكنت أن أكون: وصلت أخيرا منهوك القوى، مبهور الأنفاس ووقفت أمعن البصر فى المنظر بعد أن وصلت إليه وبلغته». ولكنة للمرة الثانية يكتشف أن الأمل الذى سعى إليه لا قيمة له، وأنه كمفكر وكاتب مجرد ألعوبة فى أيدى الساسة ورجال الأحزاب يحاولون جعله أجيرا لهم يكتب لمن يدفع أكثر دونما مراعاة للضمير أو الأخلاق أو أى مبادئ وقيم عليا وفاضلة، فيقول متحسرا: «وتملت نفسى بعد أن أصبحت المثل الأعلى النفيس الجوهر الطيب القلب، وا سخريتاه من رجال الفكر، واسخريتاه منهم فى بلد أجدب فيه الفكر ومحى الرأى! ويواصل تساؤلاته المتحسرة قائلا: «ترى هل وجهت الآراء توجيها سديدا؟.. ترى هل ارتقيت بالناس وسموت بهم إلى مستوى أفضل؟! بل هل سموت أنا بنفسى وترفعت بها؟!». ويجيب على أسئلته هذه بقوله: «أبدا والله... لقد وجدت نفسى أشبه ببائع الترمس أو البلطجية» ومرة أخرى يبدأ بطل (بصقة على دنياكم) فى البحث عن هدف جديد وأمل آخر يسعى للوصول إليه: «وبدأت أتطلع إلى أفق الحياة مرة أخرى ولاح لى المنظر من جديد يدعونى للتقدم حتى أبلغه، منظر أشد من المنظرين السابقين فتنه وأكثر روعه وأبعد منالا.. منظر كرسى الوزارة... لقد أضحى مثلى الأعلى الجديد أن أكون رئيس وزارة». وكعادته يسعى بطل القصة لتحقيق أمله: «وبعون التهريج والنفاق والمكر والرياء وبدفعه من الظروف الخرقاء الهوجاء وعلى أكتاف الحمقى والمخابيل والجهلاء وصلت أخيرا إلى رئاسة الوزراء» ويستعرض معنا أو يعرض لنا أحلامه ومشروعاته واعتقد أنه يستطيع أن ينفذها عندما يصبح رئيسا للوزراء ويخبرنا كيف لم يستطع تنفيذ هذه الأفكار والمشاريع التى فكر فى عملها لصالح الأغلبية الفقيرة والكادحة من الشعب التى كان هو نفسه واحدا منها فى الماضى القريب، وبكل أسى يقول معتذرا عن فشلة ومبررا: «لقد تذكرت ما قلت وما نويت أن افعله ولكنى لم أفعل منه شيئا، ولقد كنت والله معذورا فقد وقعت فريسة الصراعات، المؤيدون ينافقوننى لتحقيق مكاسب أكثر لهم والمعارضون لا هم لهم إلا محاولة إسقاطى وما بين المؤيدين والمعارضين لم يعد فى رأسى إلا كيف أحافظ على كرسى الحكم؟!». وان لنا أن نأخذ بعذره ونوافقه عليه أو ألا نقتنع بعذره ونرفضه، فذلك موضوع آخر، ثم نصل للنهاية نهاية البطل ونهاية القصة أيضا، فبعد هذا الكفاح الطويل والسعى الدءوب لتحقيق الآمال البراقة اللامعة طالما كانت بعيدة عنا، والمحزنة عندما نصل إليها وبعد تحقيق الأهداف كلها هدفا تلو الآخر، نرى (بصقة على دنياكم) وقد اغتاله أحدهم برصاصه غادرة عند خروجه من اجتماع لمجلس الوزراء وإذا يسقط مضرجا فى دمائه «أصبت اليوم برصاصة وأنا خارج من مجلس الوزراء لقد قتلونى بلا سبب فما فعلت أحسن ولا أسوأ مما فعل غيري؟! إنى أحتضر ولست أشك أنهم سيجعلون منى بطلا، لست أدرى لم؟! إن كل ما فعلته هو إنى قتلت، إنى أحس أننى خارج من دنياكم بعد لحظات بصقة عليها فإنى أكرهها رغم أنى قد وصلت فيها إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان». وقبل أن يسلم الروح يختتم بصقاته للدنيا قائلا: «بصقة على دنياكم فإنى أغادرها غير آسف ولا نادم.. بصقة على دنياكم وهل تستحق سوى بصقة؟!». وهكذا يرحل بطل القصة عن هذه الدنيا وهو يودعها بالكثير من البصقات واللعنات يبصق على الدنيا بكل قواه النازفة مع دمه البريء كراهة واستهزاءً. وبعد أن لخصت للقارئ العزيز القصة بقدر ما استطعت فإننى أكرر قولى بضرورة وأهمية قراءة النص الكامل والأصلى لهذه القصة الغريبة والمدهشة, يأتى السؤال المهم عن علاقة هذه القصة عن حياة واغتيال الأديب الكبير الشهيد يوسف السباعى والاجابة عن هذا السؤال ولتوضيح العلاقة بين السباعى وبطل قصته، أجدنى مضطرا هنا لعرض وتلخيص حياة وموت كل من (يوسف السباعى) و(بطل القصة) فى أربع نقاط: أ- يوسف السباعى: تخرج فى الكلية الحربية وعين فى سلاح الفرسان 1937 وأصدر أولى مجموعاته القصصية (أطياف) 1947 وأصبح وزيرا للثقافة والإعلام 1972 واغتيل برصاصات الجهل والغدر 1978. ب - بطل القصة أصبح ضابطا فارسا وكاتبا صاحب قلم وأصبح رئيسا للوزراء ، اغتاله رصاص الجهلاء والمتعصبين. ولا نظن أن القارئ اللبيب عندما يقرأ هذا الملخص عن حياة واغتيال كل من يوسف السباعى وبطل قصة «بصقة على دنياكم»، لا نظن القارئ الذكى سيجد صعوبة فى اكتشاف ذلك التطابق والتماثل شبه التام بينهما فى كل من مراحل الحياة المختلفة والوظائف والأعمال المتنوعة والموت رميا بالرصاص!. ملحوظة مهمة: تشرفت وسعدت بمقابلة يوسف السباعى أربع مرات فى مهرجانات توزيع جوائز ناديى القصة بالقاهرة والإسكندرية، وترك فى قلبى وفى أعماقى آثارا لا تنسى من خلال ابتسامته الهادئة الوادعة التى لا تفارق وجه وكلماته الطيبة المشجعة التى تفضل بها على، رحمة الله.