أكبر مشكلة يمكن أن تواجه أى مجتمع هى الجهل وانخفاض درجة الوعي، فالقيام بمشروعات كبرى أو بنية أساسية جديدة أمر ميسور إذا توافرت الإمكانات المادية والإرادة، بينما يمثل رفع درجة الوعى الجمعى عملية معقدة للغاية، وتحتاج إلى الكثير من الوقت مهما توافرت الإمكانات المادية. ومع ثورة التكنولوجيا والاتصالات وانتشار مواقع التواصل الاجتماعى وما يسمى بصحافة المواطن أصبحت المشكلة أكثر تعقيدا، فالجميع أصبح لديه فجأة وسيلة اتصال جماهيرى يستطيع من خلالها بث معلومات وآراء لعدد كبير من أفراد المجتمع، ومع انخفاض درجة الوعى وشيوع ثقافة الجهل ينشر المستخدم خاصة على الفيس بوك أى شيء باعتباره حقيقة ثابتة، ويبث أى معلومات يمكن أن تثير البلبة سعيا وراء اجتذاب أكبر عدد من القراء حتى لو تسبب للمجتمع فى أضرار كبيرة، وباستغلال أسماء جروبات يمكن أن تستهوى البعض ثم تكتشف أن لها أغراضا أخري. والأمثلة كثيرة وفى مختلف المجالات، وقد لفت انتباهى الأسبوع الماضى بوست طبى شيره جروب اسمه (ساعة لقلبك)، وهو اسم يوحى انه يهتم بالموضوعات الخفيفه والترفيه، ثم تكتشف أن البوست كارثة كبرى فهو يزعم أن طبيبا مصريا اكتشف علاجا لجميع أنواع السرطان عبارة عن حقنة واحدة، وسجل براءة اختراعه فى اكاديمية البحث العلمي، لكن وزارة الصحة المصرية رفضت تصنيعه، كما رفض الطبيب المخترع بيع العلاج لشركات الدواء العالمية لأنه اشترط عليهم ألا يزيد سعره للمريض على 300 جنيه، وأخيرا تدخل امير خليجى لإقامة مصنع لهذا الدواء فى مصر مع نشر تليفونات للتواصل مع اصحاب الاختراع المعجزة. وهذا البوست يمثل جريمة متكاملة يعاقب عليها القانون، بغض النظر عن كم الأخطاء العلمية الموجودة به، فلا يوجد دواء واحد يعالج جميع أنواع مرض السرطان، وإذا تمكن أى عالم من اختراع حقنة تعالج جميع أنواع السرطان لحصل على جائزة نوبل فورا واحتفت به البشرية جمعاء، كما أنه لا توجد براءات اختراع مسجلة فى أكاديمية البحث العلمى أو وزارة الصحة خاصة بهذا الموضوع، فالموضوع بالكامل وهمى ليس له وجود أصلا. والأغرب أن أدمن الجروب يتفاعل مع تعليقات المرضى المساكين الذين يبحثون عن أى أمل للشفاء من هذا المرض اللعين، فيتلاعب بمشاعرهم ويسألهم عن تفاصيل مرضهم وسبل التواصل معهم، وعندما تبحث عن هذا الأدمن تكتشف أنه مندوب مبيعات ليس له علاقة بالمجال الطبي. كما تكتشف أن هذا البوست المريب ظهر على الفيس بوك لأول مرة عام 2014 عندما كانت لجان الإخوان الإرهابية الإلكترونية تحاول استخدام الفيس بوك فى نشر البلبلة بين المواطنين وبث اخبار وهمية لتأليبهم على الدولة بالتزامن مع الأعمال الإرهابية التى كانوا يقومون بها وقتها لترويع الشعب المصري. هذه الواقعة يعاقب عليها القانون بتهم كثيرة منها الاحتيال والترويج لدواء غير مرخص وإثارة البلبلة ونشر أخبار كاذبة وغيرها، وتستلزم تدخل الأجهزة المعنية لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة تجاه مرتكبيها. والحقيقة أن أهل الشر يستخدمون الآن أسماء جروبات جاذبة على الفيس بوك لا تثير أى شك، وفجأة تظهر عليها البوستات المضللة وتكشف عن وجهها الحقيقي، وفى نهاية شهر رمضان فوجئت بجروب يستهدف مشاركة تجارب الآخرين الحياتية ينشر بوستات تدعو لعدم تنفيذ رأى دار الفتوى بإخراج زكاة الفطر نقودا والتمسك بإخراجها حبوبا، ثم سيل من الشتائم لكبار العلماء ولأى شخص يخالفهم الرأي. وحتى عندما يقع أى حادث إرهابى فى سيناء مثلا، يبدأ جنرالات الفيس بوك فى نشر تحليلاتهم العسكرية ونصائحهم الميدانية، ويديرون المعركة من على الكيبورد، دون أى علم بحقيقة ما يحدث أو طبيعة المنطقة أو أى معلومات حقيقية، بشكل يذكرك بالإجتماع الهزلى الذى عقده محمد مرسى مع بعض أنصاره خلال حكم الإخوان لوضع خطط ضرب إثيوبيا على الهواء مباشرة!. ولا يعلم جنرالات الفيس بوك الذين يستهدفون نشر الذعر، أن المنطقة التى تقع فيها العمليات الإرهابية لا تزيد على نسبة 5% من مساحة سيناء، أى أنها منطقة محدودة للغاية، وأن أكثر من 95% من مساحة سيناء آمنة تماما، ولا يعلمون أن معدل العمليات الإرهابية فى هذه البقعة الصغيرة من شمال سيناء قد انخفض بنسبة 90% عن عام 2016، نتيجة الجهد الكبير الذى قامت به القوات المسلحة والشرطة فى تعقب فلول الإرهاب والقضاء عليهم، رغم الثمن الباهظ الذى دفعته من دماء الشهداء، وأنه لولا الحرص على أرواح المدنيين الذين يهرب وسطهم العناصر الإرهابية احيانا لكانت القوات المسلحة قد اقتلعتهم من جذورهم تماما، رغم الدعم السياسى والإعلامى والعسكرى الذى تحظى به الجماعات الإرهابية من بعض دول المنطقة المعروفة. جنرالات الفيس بوك فى كل مجال والذين يتسمون بالجهل وانخفاض الوعى لا يتورعون عن تشيير أى بوست بغض النظر عن مصداقيته، لدرجة أن أحد هؤلاء قام منذ أيام بتشيير نبأ وفاة الفنان حسن حسني، وعندما نبهه متابعوه أن الفنان الكبير ظهر بنفسه لتكذيب هذ الشائعة، رفض صاحب الصفحة التراجع عن تشيير النبأ الكاذب لأنه يلفت الانتباه ويحصل به على لايكات وتعليقات كثيرة حتى لو كانت تكذبه. والأكثر خطورة أن بعض المواقع الصحفية بدأت فى نقل الأخبار عن صفحات الفيس بوك دون التأكد من مصداقيتها، لتدخل فى نفس الدوامة من انعدام المصداقية. لقد تحدثنا من قبل عن أهمية التربية الإعلامية ودورها فى رفع درجة الوعى وتعليم الشباب سبل التعامل الصحيح مع وسائل التواصل الاجتماعي، ومختلف وسائل الاعلام، بامتلاك المهارات والفهم والوعى الكامل والتدريب على التفكير النقدى والتحليلي، وتنمية مهارات تحليل المضمون وفهم المحتوى الاعلامي. ولابد من أن تكون التربية الإعلامية مادة اساسية فى جميع الكليات والمعاهد العليا، وبشكل أبسط فى المدارس الثانوية والإعدادية، وأن تسهم كل أجهزة الدولة فى عملية إعادة بناء الوعي، وعلى رأسها المساجد والكنائس ووسائل الإعلام ومراكز الشباب والجامعات ومراكز البحوث ووزارات الثقافة والتعليم والشباب ومؤسسات المجتمع المدني، حتى نتخلص من جنرالات الفيس بوك وتجار الأوهام والمتلاعبين بأحلام المرضى. لمزيد من مقالات فتحى محمود