فى جدل الإيمان والإلحاد، الذي لن يتوقف أبدا، يتصور الملحد أنه أكثر عقلانية وتقدمية بالضرورة من المؤمن، المفترض هنا أنه أكثر محافظة أو حتى رجعية، فهل هذا صحيح؟. يستبطن هذا الجدل مقولتين أساسيتين: الأولى هى أن إعمال العقل لا يكون إلا فى ضدية الإيمان، وأن لا تحرر للإنسان إلا بموت الإله. والثانية أن الإلحاد وحده يفتح الطريق إلى اشتغال العقل وتحرر الإنسان، وكلتاهما تحتاج إلى نقد، نمارسه اليوم إزاء المقولة الأولى، ونترك الثانية إلى حديث قادم. ندعى هنا أن صيرورة ارتقاء العقل البشرى عبر التاريخ قد ارتبطت بقدرته على الانتقال من إدراك الوقائع الصلبة والمباشرة عبر الحواس الخمس إلى إدراك اللامحسوس وغير المرئى، وهى صيرورة تشبه كثيرا صيرورة ارتقاء الفرد، ممثلا للنوع الإنسانى، حيث يبدأ الوعي الطفولى بإدراك المحسوس والصلب قبل أن يتطور إدراكه، عبر مراحل العمر، للمفاهيم المجردة والأمور المعنوية والقضايا الغيبية، فحياة كل إنسان منا بمثابة تكرار لقصة وجودناالبشرى. إنها صيرورة ارتقاء تواكب مسيرة التقدم الحضارى، التى تقوم على تجاوز الكثيف والكبير والصلد إلى الخفيف والصغير والناعم، فالآلات التى نستخدمها، كالسيارة مثلا، تتطور وظائفها نحو زيادة الأمان والسرعة والدقة فى سياق يتوازى مع تطور المواد المستخدمة فى صنعها من الحديد الصلد الذى يصعب تشكيله، إلى لدائن البلاستيك والمطاط التى تمنح الصانع مرونة وقدرة فائقتين على تشكيل جسم السيارة. والكمبيوتر الذى بدأ ضخما يحتل منضدة كبيرة أخذ يصغر حجما فى اتجاه يتوازى مع تعقد وظائفه وتنامى قدراته، حتى صار «لاب توب» ثم محمولا صغيرا فى الجيب واليد. وهذا ما يمكن قوله أيضا على كل وسائل الاتصال، التى يتوازى تطورها نحو المزيد من الكفاءة والتعقيد الوظيفى، مع صغر الحيز المستخدم لها. أيضا القوة التى تطورت من استخدام الجيوش الضخمة مع مستوى أقل من الفاعلية إلى تشكيلات أقل حجما وامتدادا ولكن مع قوة نيران أكبر وفاعلية أدق، مرورا بالأسلحة فائقة التطور، وصولا إلى مفهوم القوة الناعمة الذى ينتهج وسائل تأثير غير مرئية من الأصل، اقتصادية وثقافية وفنية، تتغلغل فى بنية علاقات الدول لتمارس الجذب والإغواء بديلا عن القسر والإرغام. هكذا تدلنا عشرات الأمثلة على أن حركة التقدم التاريخى محض انتقال من الكثيف والضخم والصلب إلى الخفيف والصغير واللين فى صيرورة ارتقاء تواكب الحركة من الأرض إلى السماء، ثم إلى الفضاء الكونى، أى من الكتلة الصلبة المحسوسة فى الوديان والجبال والرمال والتراب نحو الأثير والفراغ الذى تسبح فيه الكواكب والأجرام، ثم إلى الخيال المطلق الذى يسعى إلى تصور عوالم المافوق والمابعد، وتلك مكونات عالم الغيب، الذى لا يمكن بلوغ كنهه بيقين، أو الإمساك به بالحس فقط، وإن أمكن تعقله، أو تخيله، أو تصوره. ومن ثم ارتبطت مسيرة ارتقاء العقل البشرى بتنامى قدرة الإنسان على إدراك مفهوم الإله المطلق، خالق الكون ومسيره دون أن يكون محايثا / باطنا فيه أو مرئيا لنا، فهذا الإدراك كان بحاجة إلى قدرة عقلية فائقة على التمثل والتجريد نمت تدريجيا في الزمن فيما كان العقل البدائى عاجزا عن بلوغه، ولذا قام بتوزيع قدرت الإله الشاملة على مظاهر الطبيعة القوية، ناسبا المطر لإله والريح لآخر، وكذلك الفيضان.. الخ، مما كان يقضى بتجزؤ معمار الكون وتفتت قوانين الطبيعة، على نحو يعوق تقدم العلم. ومن ثم فإن المباراة الصفرية التى يتصورها البعض بين العقل والإيمان، ولابد فيها من منتصر ومهزوم، ليصبح العقل قرينا للإلحاد، هى محض توهم، ينبنى على فهم اختزالي لمفهوم العقلانية نفسه، الذى يتجلى بأشكال مختلفة تراوح بين المثالية والنقدية والمادية. أما المثالية والنقدية فتُفسحان المجال للإيمان الروحى وتتصالحان معه. وأما العقلانية المادية، فتنفى كل وجود يتجاوز الحس ويستعصى إدراكه على الحواس. هذا التمركز على الحس وحده يرجع إلى النزعة التجريبية الساذجة التى راجت عند بدايات العلم الحديث تعويلا على مبدأ الاستقراء البسيط الذى يتطلب فحص كل مفردات الواقع حصريا قبل الادعاء بتعميم ما أو القول بنظرية معينة. هذا الاستقراء البسيط تدحضه التطورات الحديثة فى نظرية المعرفة، ومن ثم تم تجاوزه بأشكال أخرى من الاستقراء الاستنباطي تنطلق من عقلانية كانط النقدية، التى لا تبقى العقل مجرد متلق سلبى لحدوث تجريبية تأتيه من ظواهر العالم الخارجى بل تحيله وعيا كليا مركبا، يحتوى على مبادئ قبلية للمعرفة (أخلاقية وروحية) تنبع من طبيعته ذاتها، يطرح على هديها كل الأسئلة التى تشغله هو على الواقع المحيط به ليتلقى عنها إجابات، تصبح بدورها مدار اهتمامه وموضع فحصه، ليتقدم أكثر نحو جوهر الحقيقة تعويلا على قدراته الذاتية. وعلى هذا فإن النزعة المادية فى صورتها المتطرفة التى تنتصر للحس وحده، ومن ثم تتنكر لمفهوم الإله، هى نفسها التى تتنكر لمفهوم العقل الشامل ومبادئه الكلية، ومن ثم لمفهوم الإنسان ككائن عاقل وحر ومتسام، فالإنسان لديها مجرد مادة تتحرك بآلية منتظمة، كأنه جزء من عالم الطبيعة، ومن ثم فإنها تنفى عنه حرية الإرادة، ولا ترى فى سلوكه وانفعاله وميوله الأخلاقية إلا مجرد عوارض فسيولوجية لحركة الذرات داخل جسده. ولو أخذنا هذا التصور على عواهنه فلن ينتفى لدى هذا الإنسان الأصم مفهوم الإيمان الروحى فقط، بل سيغيب عنه أيضا جميع المفاهيم المعنوية التى تلهم وجودنا وتمنح المعنى لحياتنا كالحب والفن والإبداع والخيال، لأن اللغة العادية الصماء التى تعجز عن تفهم روحانية الإيمان هى نفسها التى تعجز عن توصيل مجازات الأدب وموسيقى الشعر وهمسات العشق. فعلى عكس ما يتصور مبدعو الفنون والآداب التقدميون من أنهم لا يحققون ذواتهم إلا على حساب الحضور الإلهى فى العالم، يتبدى لنا عالم الإلوهية الرحيب، بمثابة ضمانة للتحرر من كتلة المادة الصلبة والتحليق فى الفضاء الواسع، ليصبح ممكنا السمو على الحس والإمعان فى الخيال وإبداع الفنون والآداب والفلسفات، فما يعوق الخيال ويقيد الفن ويهجو الحب ليس إلا كهنة الإيمان فى كل الأديان، فليسقط الكهنة إذن فى كل مكان، وليبق الله معينا للإبداع والحب والإيمان. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم