حاولت أريح القراء من الكتابة عن ليبيا هذا الأسبوع، لكن التطورات المتسارعة داهمتني، وفرضت التوقف عند فكرة ربما لم يتطرق لها كثيرون، تتعلق بإصرار تركيا على إرسال سفن محملة بالأسلحة والمعدات العسكرية إلى موانى مصراتة والخمس وطرابلس، وتصميم حكومة الوفاق والبعثة الأممية على تجاهل اختراقات حظر تصدير الأسلحة وقراءة المعطيات الإقليمية والدولية بصورة خاطئة. تؤكد تحركات كثيرة أن تركيا، ومعها قطر، هما الدولتان الوحيدتان تقريبا اللتان تؤيدان تصرفات الحكومة الليبية بلا تحفظ، وتباركان تحالفها مع الميليشيات والمتطرفين، وتوفران دعما سياسيا للتصورات التى يتبناها غسان سلامة المبعوث الأممى إلى ليبيا بشأن السعى لتمكين تيار الإسلام السياسى بأى وسيلة، وغض الطرف عن الإخفاقات المتتالية التى تواجهها بعثته، وبسببها يتحرك هذا التحالف لتغيير المشهد الذى يميل بقوة لصالح عملية طوفان الكرامة الساعية لتحرير طرابلس من قبضة العصابات المسلحة. أنهكت العملية العسكرية التى يقوم بها الجيش الليبى الميليشيات وبددت تماسكهم الظاهر، ولم يتبق منهم سوى عدد محدود يساند حكومة الوفاق. لذلك بدأ رئيسها فايز السراج يستعين بمزيد من الأسلحة التركية ودفع الثمن المادى مقابل عدم توقفها، أملا فى تعديل الموقف الميدانى المنهك حاليا، ومنع انفضاض ما تبقى من قادة عسكريين وإرهابيين، والإيحاء بأن المجتمع الدولى لن يعترض على خرق حظر تصدير الأسلحة. لن تمثل الأسلحة القادمة من أنقرة عنصر إنقاذ كبيرا للعناصر التى تقاتل بجوار حكومة الوفاق، وربما تصبح صيدا ثمينا للجيش الليبي، من حيث سهولة تدميرها أو الاستحواذ عليها كغنيمة حرب. وتعرف تركيا أن تسريب أسلحتها لم يعد سرا، ولن تغضب من آليات الكشف عنها، وتعى صعوبة تغيير موازين القتال بهذه الطريقة البدائية، لكن أرسلتها لتأكيد أن لها يدا طولى فى ليبيا قد تساوم على رفعها مستقبلا عندما تحقق مرادها. تتكاتف مجموعة كبيرة من الأزمات حول تركيا، فى سوريا ومع الولاياتالمتحدة ودول أوروبية عديدة وفى شرق البحر المتوسط ومع قبرص واليونان، ناهيك عن تراكم المشكلات السياسية والاقتصادية فى الداخل، ما يفرض على الرئيس رجب طيب أردوغان عدم توسيع نطاق الانخراط فى ليبيا التى تتقاطع فيها الكثير من مصالح الجهات السابقة. تقف أنقرة فى صف تحالف حكومة الوفاق والميليشيات والمتشددين من منطلق أيديولوجي، لكنها لن تبخل بالتضحية بهؤلاء عندما تتمكن من جنى ثمار خداع الآخرين. ومن غير المستبعد أن توقف سفن الأسلحة وتفرمل تحركات القيادات الإسلامية فى اسطنبول وتحجم سفر المتشددين إلى ليبيا، إذا حصلت على وعود بتخفيف الضغوط الواقعة عليها فى بعض الملفات الإقليمية الحيوية. لدى أنقرة خبرة واسعة فى المساومة والمناورة، وتفاهمت من قبل مع ألمانيا على ورقة الهجرة غير الشرعية، وحصلت على مقابل مادى سخى أجبرها على وقفها. وتعرف أن مكونات الجغرافيا السياسية لن تسمح لها بنفوذ كبير فى ليبيا. وتدرك أن تحركاتها تكتيكية وليست استراتيجية. وثمة دول عربية تقف لها بالمرصاد. وعلى اقتناع أن بعض الدول الغربية لن تسمح لها بتهديد مصالحها الأمنية والاقتصادية من خلال ليبيا. وإذا كانت بعض التطورات سمحت بزيادة تشابكات تركيا على الساحة الليبية، ففى لحظة معينة سوف يتم إجبارها على الخروج بأى ثمن. وهنا تريد أنقرة ثمنا سياسيا مغريا عبر الحصول على تنازلات فى ملفات إقليمية أخري. ما يجعل رهان بعض القوى الليبية عليها خاطئا. وقد تكون حكومة الوفاق ضحية سياسات أردوغان، كما هى ضحية تعلقها بمشاجب محلية ضعيفة. تصر الحكومة على تجاهل الانتهازية التركية. وتعتقد أن استمرار تدفق الأسلحة كفيل بالضغط المعنوى على الجيش الوطنى الليبى لدفعه نحو القبول بنداءات المبعوث الأممى لوقف إطلاق النار، بعد ارتكاب جرائم إنسانية من جانب الميليشيات ومحاولة إلصاقها بالمؤسسة العسكرية الوطنية. يجتهد غسان سلامة فى تأليب المجتمع الدولى على القوات المسلحة بلا طائل، لأن تحركاته لتمكين تيار الإسلام السياسى متعثرة. ويعمل على ترويج ادعاءات كاذبة وقدرته الفائقة فى التأثير على الإدارة الأمريكية، بمساعدة قطرية. فقد التقى أخيرا مسئولين فى الولاياتالمتحدة، بترتيب من أحد مراكز الأبحاث المدعومة من الدوحة، وخرج من اللقاءات منتشيا، بينما لا يزال الموقف الأمريكى ثابتا من رفض سيطرة الكتائب المسلحة والمتطرفين، ويتناغم مع تحركات المشير خليفة حفتر قائد الجيش الرامية لمكافحة الإرهاب وتخليص سكان العاصمة من قبضة الجماعات المسلحة. تمضى عملية طرابلس بحسابات دقيقة، وقادت نحو حصد مكاسب جيدة حتى الآن، ونجحت فى الحصول على تأييد خارجي، انعكست معالمه فى شكل برودة فى اللقاءات التى أجراها السراج مع بعض القيادات الغربية، فى وقت تزداد فيه الحرارة السياسية مع حفتر، الذى حصد دعما داخليا ظهرت تجلياته فى التفاف الأهالى حول القوات المسلحة التى تعمل على تخليصهم من الكتائب المسلحة ووقف نزيف الأموال التى تذهب لجيوب الميليشيات. وفشل السراج فى تصوير العملية على أنها معركة بين شرق وغرب، أو أن سكان طرابلس على قلب رجل واحد فى دعمهم لحكومته. يخشى السراج من مغبة التناغم الداخلى والخارجى مع تصورات الجيش الوطني، وسارع بإغداق أموال الليبيين على بعض مؤسسات العلاقات العامة، وبينها التعاقد مع شركة المسايسة الأمريكية (جلوفر بارك جروب) تحت وهم تغيير موقف إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتم دفع 150 ألف دولار تكلفة نشر مقال كتبه فى وول ستريت جورنال أخيرا. ويقوم أحمد معيتيق عضو المجلس الرئاسى الليبى بزيارة لواشنطن لحض أعضاء فى الكونجرس على إنقاذ حكومة الوفاق، والمساندة فى توفير شبكة أمان جديدة للمتشددين فى ظل مواجهتهم معركة عسكرية وسياسية حاسمة يمكن أن تقضى على وجودهم القوى فى ليبيا والمنطقة برمتها، وحرمان الدول التى دافعت عنهم وتاجرت بهم من أى مزايا. وتعلم أنقرة أن هذه الورقة فقدت جزءا كبيرا من بريقها، وتأثيرات أسلحتها محدودة ومن السهولة اصطيادها، وما لم تخرج من هذه الورطة بإرادتها فسوف تجد نفسها أمام سلسلة من الضغوط الدولية تجعلها تبتعد عن ليبيا وهى خالية الوفاض. الأمر الذى يؤكد فشل ترتيبات من وضعوا كل بيضهم فى سلة دول تناصر الإرهاب. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل