عالم الجاسوسية لا أمان له، خاصة فى ظل الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، حيث يخضع لمعايير مرنة ونسبية من عميل لآخر .. وقد ينظر البعض إلى جاسوس باعتباره رمزا للوطنية والولاء وبطلا لكشف الحقائق، بينما يتعامل معه البعض كخائن أعظم يستحق العقاب، والملاحقة القانونية والجنائية لإفشائه أسرارا عليا تهدد الأمن القومي. ونحن الآن أمام اسمين اثنين أثارا حالة من الجدل بعد أن اختار كل منهما طريقه لاختراق الأسلاك الشائكة حول قلعة المخابرات الأمريكية «سى.آى.إيه» وتحطيم «تابوهات» الأسرار العسكرية لهذه المؤسسة وفضح شبكة علاقاتها بأدق تفاصيل أزمات الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره. أولهما، جوليان أسانج ذلك المغامر الأسترالى المشاغب منذ نعومة أظافره، وكثيرا ما وصفه المقربون إليه بأنه شخص متحمس للغاية وفائق الذكاء، ويتمتع بقدرة استثنائية على فك شفرات برامج الكمبيوتر، زاعما شغفه بمفاهيم الأخلاق والعدالة. والفضل فى شهرته لموقع «ويكيليكس» الذى أسسه عام 2006، ليخترق الأنظمة السرية الأمريكية، ونجح فى تسريب آلاف الوثائق والمعلومات والصور المحظورة عن قضايا وملفات حكومية، وتم تدشين الموقع مع مجموعة من أصحاب أفكار مماثلة لأفكار أسانج، وابتكروا «علبة رسائل ميتة» على الإنترنت، لمن يريد أن ينشر تسريبات، ولكى يفلح أسانج وزملاؤه فى الإفلات من السقوط أو الفشل فى مهمتهم، اتبعوا نمط حياة أشبه بالبدو الرحالة ليديروا «ويكيليكس» من مواقع مؤقتة ومتغيرة، للتهرب من الملاحقات الدولية. وما أحرج واشنطن نشر الموقع عشرات الآلاف من البرقيات الدبلوماسية السرية للبعثات الأمريكية فى الخارج، على يد الضابطة الأمريكية تشيلسى مانينج التى زودت أسانج بأكثر من 720 ألف وثيقة دبلوماسية وعسكرية سرية، لتواجه فى مارس 2011 اتهامات صريحة بالتجسس من واقع عملها بوحدة عسكرية قرب العاصمة العراقية، وهو ما وفر لديها إمكانية الاطلاع على قواعد بيانات تستخدمها وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» فى تخزين معلومات سرية، لكنها سرعان ما اعتذرت عن «إلحاق الضرر ببلادها» لاعتقادها «خطأ» أنها تستطيع أن «تغير العالم إلى الأفضل»!، وبدا هذا الاعتراف دليل إدانة ضد أسانج ومحاولاته لتجنيد العملاء وتهديد الأمن القومى الأمريكى. وعند هذه النقطة، تصاعدت النداءات بسرعة اعتقال أسانج ومصادرة «ويكيليكس»، واضطر الأخير إلى اللجوء السياسى إلى سفارة الإكوادور بلندن عام 2012 لتجنب تسليمه إلى الولاياتالمتحدة، وبعد 7 سنوات من الهدوء النسبى فى أحضان أمريكا اللاتينية، ارتكب أسانج «سقطة» كلفته رعاية الإكوادور بتسريبه صورا للرئيس لينين مورينو، داخل غرفته بفندق فاخر وهو يتناول وجبة مأكولات بحرية باهظة الثمن فى الوقت الذى يطالب الشعب بالتقشف لتجاوز الأزمة الاقتصادية. وما كان بمورينو إلا اتخاذ قرار تسليم أسانج للسلطات البريطانية انتقاما لفعلته. أما الاسم الآخر المتمرد على البيت الأمريكى، فكان من إدوارد سنودن الموظف السابق فى ال «سى. آى. إيه»، والذى وصف اعتقال أسانج ب«اللحظة السوداء لحرية الصحافة»، إيمانا منه بدور «ويكيليكس» فى توعية الرأى العام العالمى وتبصيره بالصورة الحقيقية لمراكز صنع القرار، وذاع صيت سنودن بعد أن سلم عدداً من المواد السرية الخاصة ببرامج تنصت الأجهزة الأمنية الأمريكية والبريطانية، إلى صحيفتى «واشنطن بوست» و«الجارديان» فى يونيو 2013، وتم تصنيفه فى خندق الأعداء فتوجه إلى هونج كونج، ومنها إلى روسيا ليحصل على حق اللجوء السياسى المؤقت، ومن أبرز وثائقه المسربة تلك التى صدرت عن وكالة الأمن القومى الأمريكى وتؤكد أن تنظيم «داعش» الإرهابى هو صناعة أمريكية بامتياز بالتنسيق بين أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية.. وكشفت الوثيقة أن الإرهابى أبو بكر البغدادى خضع لتدريب عسكرى مكثف لمدة عام كامل من قبل جهاز الموساد الإسرائيلى، وتلقى دروسا فى اللاهوت وفن الخطابة. وباستعراض موجز لرحلتى «أسانج» و«سنودن» الخاليتين من أى صفقات شراء أو ابتزاز للعدول عن طريقهما، وفى ظل إصرارهما على اقتحام وفتح «الصندوق الأسود» لأباطرة الأمن فى العالم .. هل بالفعل هما من فصيلة الأبطال، أم أن ما ارتكباه خروجا عن القانون وتهديدا صارخا لأمن الدول والشعوب، ولابد من احتواء الموقف قبل ظهور وجوه أخرى مستقبلا وتُسرب المزيد .. ولكنها تطالب ب «الثمن مقابل المعلومة»؟