شهدت اليابان أخيرا حدثاً تاريخياً نادراً ما تعرضت له على مدى تاريخها الطويل، وتحديداً على مدى تاريخها الإمبراطورى الذى يمتد على الأقل لنحو ثلاثة آلاف عام. وهو تنازل الإمبراطور أكيهيتو خلال حياته وبمحض إرادته الحرة عن العرش لمصلحة ولى عهده الإمبراطور الجديد ناروهيتو، وفى هذه الحالة هو ابنه الأكبر. وللعائلة الإمبراطورية فى اليابان عراقة تكاد تتطابق مع عراقة الشعب اليابانى ذاته وحضارته الضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ، كما أن لهذه العائلة تاريخا مرتبطا بشكل عضوى بتاريخ اليابان ذاتها، حيث توجد قناعة عامة لدى اليابانيين أن هذه العائلة الإمبراطورية جاءت أصلاً من نسل الآلهة فى أزمنة سحيقة ماضية، خاصة أن هناك قناعة بأن هذه العائلة جاءت إلى أرض اليابان، التى هى عبارة عن مجموعة جزر، عن طريق البحر، مما يدلل به بعض المؤرخين اليابانيين على أن هذه العائلة نزلت أصلاً من السماء وأنها من نسل الآلهة. كما أنه حتى هزيمة اليابان فى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الديانة الشينتوية هى الديانة الرسمية فى اليابان، كما أنها حتى الآن هى إحدى الديانتين الرئيسيتين فى البلاد، مع الديانة البوذية، كما أنها تبقى معروفة بأنها ديانة الإمبراطور وأسرته، وتكرس هذه الديانة الأصل الإلهى للعائلة الإمبراطورية، وتعتبر الشينتوية الإمبراطور رأس الديانة، وكانت الدولة على هذا الأساس تتولى الإنفاق على تلك الديانة ودور العبادة الخاصة بها وأنشطتها من ميزانية الدولة، وذلك حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية فى آسيا فى أغسطس 1945، حيث إن الدستور الجديد الذى وضع بعد هزيمة اليابان فى تلك الحرب أنهى وجود ديانة رسمية للدولة وحظر إنفاق الدولة على اى ديانة بعينها أو أى دور عبادة تابعة لديانة أو أخرى. وللإمبراطور فى الحالة اليابانية أهمية كبيرة كرمز لوحدة الوطن وعمق جذوره فى التاريخ، وكذلك كرمز لوحدة الشعب، كما أن له دلالة روحية أعطت دوماً قوة دفع كبيرة للشعب اليابانى على الصعيد المعنوي، ومن دلائل ذلك الاعتزاز من جانب الشعب اليابانى بالإمبراطور كرمز وقيمة هو الرفض التام من جانب كل فئات المجتمع اليابانى لإصرار سلطات الاحتلال الأمريكى لليابان، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان واحتلالها، على إقصاء الإمبراطور، هيروهيتو فى ذلك الوقت، بل ومحاولة إلغاء النظام الإمبراطورى كلية فى اليابان فى بعض تلك المراحل المبكرة. وبالفعل نجح هذا الموقف الموحد لكل القوى الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية اليابانية فى إجبار الطرف الأمريكى على احترام إرادة الشعب اليابانى والنزول عليها، ومن ثم تم الإبقاء على النظام الإمبراطوري، بل تم الإبقاء على الإمبراطور هيروهيتو شخصياً حتى وفاته، وذلك من منطلق ارتباط شخص ومكانة الإمبراطور بهوية الشعب اليابانى وتاريخه وأعرافه وتقاليده العريقة. وإذا كان الإمبراطور المتنحى أكيهيتو، بموجب إرادته الحرة، قد استمر ثلاثة عقود فى تولى مهام منصبه، فإنه كان منذ سنوات عديدة، بل من نحو عقد من الزمان، وبسبب ظروفه الصحية، قد بدأ بشكل تدريجى فى إيكال العديد من مهامه الإمبراطورية لولى عهده الإمبراطور الجديد ناروهيتو فيما اعتبره كثيرون آنذاك تمهيداً منطقياً للقرار الذى أعلنه فى عام 2018 بنيته التنحى رسمياً ونهائياً لمصلحة ولى عهده فى عام 2019، وهو الأمر الذى تم بالفعل منذ أيام قليلة. أما عن الإمبراطور الجديد، فقد كانت لديه العديد من الاهتمامات العامة عندما كان ولياً للعهد، وبعض هذه الاهتمامات كان لها طابع وأبعاد عالمية ولا تقتصر على الداخل اليابانى فقط، ومن بين هذه الاهتمامات كان موضوعات المياه، فقد كان الإمبراطور الجديد آنذاك عضواً فى المجلس العالمى للمياه، وتولى منصب نائب رئيس هذا المجلس للعديد من السنوات. وبهذه الصفة، تطورت صلات قوية بين الإمبراطور الجديد، عندما كان ولياً للعهد، وبين العديد من الشخصيات العالمية المهمة، وفى مقدمتهم الملك ويليام ألكسندر، الملك الحالى لهولندا، عندما كان بدوره ولياً للعهد فى بلاده، حيث جمعتهما عضوية المجلس العالمى للمياه، كما أن ملك هولندا الحالى تولى آنذاك بدوره لفترة رئاسة المجلس العالمى للمياه. كذلك سمح النشاط فى هذا المجال للإمبراطور الجديد بتطوير علاقاته بشخصيات عامة تنتمى لبلدان ومناطق مختلفة من العالم، كان منهم من مصر على سبيل المثال لا الحصر وزير الرى الأسبق الأستاذ الدكتور محمود أبو زيد. كذلك فإن الإمبراطورة الجديدة لليابان، الإمبراطورة ماساكو أوادا، كانت أصلاً قبل زواجها من الإمبراطور ناروهيتو، عندما كان ولياً للعهد، دبلوماسية يابانية، بل كانت واحدة من ألمع الدبلوماسيات الشابات فى سلك وزارة الخارجية اليابانية. وللإمبراطور ناروهيتو والإمبراطورة ماساكو ابنة وحيدة وهى الأميرة أيكو، وهو الأمر الذى يعني، طبقاً للمواد الموجودة فى الدستور اليابانى حتى هذه اللحظة، أنه عقب انتهاء حقبة حكم الإمبراطور ناروهيتو فإن من سيعقبه فى منصب الإمبراطور هو الابن الأكبر لشقيقه الأمير ميتشيكو، حيث إن الدستور اليابانى ينص على أن منصب الإمبراطور مقصور على الذكور فقط دون الإناث، وكان قد ثار الحديث منذ سنوات قليلة فى اروقة الرأى العام والإعلام اليابانى فتح المنصب للذكور والإناث معاً، ولكن سرعان ما خفت هذا الحديث آنذاك، ولكنه قد يعود للظهور مجدداً فى مرحلة ما أو أخرى فى المستقبل القريب أو البعيد. ويتعين أن نتذكر فى الختام أن للإمبراطور فى اليابان مهمة تكليف رئيس الحزب الحاصل على أكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، الغرفة الأصغر فى البرلمان، بعد كل انتخابات لذلك المجلس، بتشكيل حكومة جديدة، سواء لهذا الحزب بمفرده فقط، وهو النادر فى التاريخ اليابانى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فى عام 1945، أو بالائتلاف مع حزب أو أحزاب أخرى، وهو السمة الغالبة على المشهد السياسى اليابانى فى تلك الحقبة نفسها، كما أن من حق الإمبراطور مد المهلة الممنوحة لرئيس الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد فى مجلس النواب لإجراء المشاورات بغرض تشكيل الحكومة الجديدة، بغرض تمكينه من استكمال المشاورات اللازمة لهذا الغرض، سواء داخل حزبه أو مع قادة الأحزاب الأخرى. لمزيد من مقالات د. وليد محمود عبد الناصر